أوقفوا هذا المسلسل
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
(يجب إيقاف عرض هذا المسلسل و فورا ، إنه يتعارض مع كل عاداتنا و تقاليدنا و مورثاتنا ، و يدمر العلاقات الأسرية ، بخروجه على كل تقاليد الأسرة ، و المواضعات الاجتماعية ، كما أن بعض حلقاته تثير الغرائز بل و تحض الناس على الرذيلة بعرضه علاقات خارج إطار الزواج لشخصيات معروفة وشهيرة مما قد يحفز البعض على تقليدها).
طلبت من صديقى أن يهدأ ، فقد انفعل بشدة و هو يلقى برأيه ، و قلت له بهدوء : لم أر فى مسلسل ( التاج ) المعروض على منصة ( نتفليكس ) شيئا مما قلت ، و حتى لو كان كذلك ، فهو يصور مجتمعا مختلفا عنا له عاداته و تقاليده هو الآخر التى – ربما – لا تتوافق معنا ، و إذا كان يعرض بعضا منها فليس هذا معناه أنه يحثنا على تقليدها .
انفجر غاضبا : إزاى يا أستاذ ؟ يعنى لما أنا أشوف أخت ملكة بريطانيا ( ثم كررها فى تأكيد شديد ) واخد بالك أنت : أخت ملكة بريطانيا ، بتخون جوزها – عادى كده – أمال الستات فى البيوت يعملوا إيه ؟
قلت له : و ما علاقة الستات فى البيوت بهذه القصة ، المسلسل يتعرّض – ضمن أحداثه العديدة – لمأساة أميرة منعتها التقاليد الملكية من الزواج بحبيبها فى صدر شبابها ، فتسببت تلك الواقعة فى إصابة الأميرة بالتخبط العاطفى ، كما أن من منعتها هى شقيقتها الملكة و بينهما ما بينهما من علاقة معقدة بسبب أن الأميرة كانت تتمنى أن تصبح هى الملكة بما هى عليه من قوة الشخصية و صلابة العود ، عكس شقيقتها الخجولة المنطوية و التى شاء القدر و التقاليد أن تصبح هى ملكة بريطانيا .
قال فى سرعة : أهو .. أديك اعترفت أهو .. أخت بتحقد على أختها ، و كانت عاوزة التاج لنفسها ، هو ده اللى نعرضه للناس ؟ طيب سيبك من دى ، بنت الملكة نفسها مش لمحوا إنها بتحب ظابط فى الحرس ؟
قلت له : نعم فى إطار أهم ، أن الملكة و بسبب ظروف الحكم لم تعد كأم تعرف الكثير عن أولادها ، إنها حلقة من أروع حلقات ذلك المسلسل ، حين يتعرض ابن رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر للاختفاء فى الصحراء أثناء أحد سباقات السيارات و جهود تاتشر للعثور عليه و بين موقف الملكة من أولادها الذين تعرفهم بالكاد ، حتى أنها طلبت قبل أن تلتقى بهم تقريرا تفصيليا عن كل واحد منهم ، و من خلال التقرير علمت عن الشائعات التى تطال سمعة ابنتها . إنها مقابلة رائعة بين سلوكين لأمهات فى السلطة ، كما تتكلم الحلقة عن مشكلة الابن المفضل لدى الأم و أثر ذلك على بقية الأبناء .
قال : طب ده كلام ؟ ملكة و مش عارفة ولادها بيعملوا إيه ؟
قلت : ذلك سر جمال المسلسل ، فبرغم أنه من مسلسلات السيرة الذاتية ، و أنه يتعرض لشخصيات هامة سياسيا و اجتماعيا ، إلا أنه لم يقع فى ورطة تقديس الشخصيات التى يقدمها ، فقدمها بشكل إنسانى ، بأخطائها و عثراتها و إحباطاتها ، و جعل من الأسرة حاملة التاج أسرة عادية – ككل أسرة – فيها تناقضاتها و معاركها الصغيرة ، و أيضا أحقادها و أمانيها ، و لكنها أيضا غير كل الأسر بما يفرضه التاج عليها من قواعد و التزامات و تقاليد ، و لذا كان الموقف الذى عرضته إحدى الحلقات فى غاية الإنسانية ، حول تقلب الأمير فيليب فى معاملته للملكة : هل يعاملها كملكة أم يعاملها كزوجة ؟
إن المسلسل المكتوب برقة شديدة – و الذى تم تنفيذه بحرفية عالية – استطاع أن ينقل لنا عصرا كاملا بأحداثه السياسية و الاجتماعية منذ الثلاثينيات و حتى الثمانينات برغم أنه يتحدث عن العائلة الملكية و لكنها عائلة تتأثر بكل الأحداث و ربما تؤثر فيها ، و لم تستطع السيرة الذاتية أن تطغى على الأحداث التاريخية و تهمشها لصالح ماهو ذاتى ، و ربما كان أسلوب الكتابة هو الذى أتاح هذا فكل حلقة هى عبارة عن فيلم يكاد أن يكون وثائقيا عن حادثة معينة سواء فى حياة الأسرة أو فى تاريخ بريطانيا أو فى تاريخ العالم ، ففيه حلقات عن الحرب العالمية ، و حلقة حول المؤامرات التى حيكت ضد تشرشل من وزرائه لكى يترك رئاسة الوزارة ، و أخرى عن الصعود إلى القمر ، و كلها تتسم بأنها حلقات ممتعة ، و تم تنفيذها بدقة متناهية فى الالتزام بطبيعة العصر من ديكورات و ملابس و إكسسوارات ، حتى طُرز السيارات ، و لم يغفل المسلسل عن صغائر الأمور أو الأحداث الجانبية ، فمثلا قدم حلقة عن اكتشاف جاسوس فى القصر الملكى ، و كيف تعاملت الأجهزة الأمنية و مسئولى القصر مع الموضوع .
قال : دى فضيحة يا أستاذ ، جاسوس فى القصر ؟ و يعترفوا كده بسهولة ؟
قلت : بالطبع ، فهناك لا يصنعون المسلسلات لتجميل الصور ، و لا لإضفاء بطولات ، و لا لتصوير أنبياء لا يخطئون ، إنهم يتعاملون بمقولة سقراط : أفلاطون حبيب إلى قلبى و لكن الحقيقة أحب إلىَّ من أفلاطون . يكفى أنهم استعرضوا مثالب و أخطاء بعضا من رؤساء الوزراء ، بما فيها مشاكلهم العائلية و الشخصية التى أثرت عليهم . و فى اليوم الذى نستطيع أن نقدم نحن مسلسلا عن شخصيات شهيرة بمثل هذه الصراحة فى وطننا العربى سأقول لك لقد وصلنا إلى الديمقراطية الحقة . فما بالك بمسلسل عن عائلة ملكية لم تزل تجلس على العرش ؟ فى حين أننا لا نستطيع إنتاج مسلسل عن شخصية شهيرة ماتت – و ليس حاكما مازال يحكم – فإن عائلات مشاهيرنا تتدخل و تمنع عرض حياتهم فى الأعمال الفنية إلا بصورة ملائكية ، تحت دعوى الحفاظ عليهم من التشويه .
قال : أمال عاوزنا نشوه رموزنا ؟ يعنى مثلا نعمل مسلسل عن سعد زغلول و نقول فيه إنه كان مدمن قمار ؟
قلت : تلك هى المشكلة ، هل سنقدم مسلسلا عن سعد زغلول فقط لنقول أنه كان مدمنا للقمار ؟ أم سنقدم مسلسلا عن مواقفه العظيمة و تُذكر مسألة إدمانه عَرَضاً خلال الأحداث ؟ من حقك أن تتعمق فى مسألة الإدمان إن كانت قد أثّرت على قراراته ، و لكن الأهم – من وجهة نظرى – أن تقدم سعد زغلول الانسان و ليس الإله ، أن أرى جذور خلافه مع عدلى يكن ، أن أعرف الأب الحقيقى لثورة 19 ، و لماذا رفض عبد العزيز فهمى قيام المظاهرات عند القبض على سعد بناء على رأى سعد شخصيا ؟
قال : هتقولى بقى التنظيم بتاع محمد فريد هو اللى قام بالثورة و الكلام ده ؟ كل دى وجهات نظر ، و كل صاحب وجهة نظر هيسعى لوقف المسلسل لو مش على هواه .
قلت : و هكذا عدنا إلى مقولتى ، الفيصل فى الأمر هو مدى الديمقراطية التى يتمتع بها المجتمع و ليس النظام الحاكم فقط . بالطبع مسلسل التاج لم يصادف هوى البعض هناك ، و على رأسهم القصر الملكى نفسه ، فقد طلب وزير الثقافة البريطانى من نتفليكس أن تضع عبارة ( المسلسل به أحداث خيالية ) على الجزء الصادر مؤخرا ، بسبب تعرضه لعلاقة الأمير تشارلز و الأميرة ديانا و التى رأى القصر أنها تتحيز للأميرة . و برغم أن الشبكة لم تنفذ ذلك الطلب ، فلم يوقف القصر المسلسل و لم يرفع قضية بذلك ، تلك هى الديمقراطية .
قال : و انت بقى عاوزنا نعمل زيهم ؟
قلت : و ماله ؟ أذكر أننى فى مطلع شبابى قدمت عملا عن عمنا صلاح جاهين على المسرح القومى بعنوان عجبى ، و كنت مدركا أن تاريخ الرجل مرتبط بثورة يوليو و قائدها ، و لذا تقاسم العرض كلا من جاهين و عبد الناصر – برغم عدم ظهوره على المسرح – و عندما تم عرض العمل لم أندهش عندما هاجمنى الإخوان و الوفديون و الساداتيون ، أما ما أدهشنى حقا هو هجوم اليسار و بعض الناصريين ، ذلك لأننى – رغم حبى لعبد الناصر – ذكرت ماله و ما عليه ، و لولا دفاع أستاذنا ” محمد عودة ” – الكاتب الناصرى الكبير – عن العرض لاعتبرونى مارقا .
قال : و انت عاوزنا بقى نطلع فى مسلسلات تاريخية ، أو مسلسلات سيرة ذاتية نقول فلان غلط و فلان أساء ؟ أدى نتيجة الفرجة على مسلسل التاج ، المسلسل ده لازم يقف و يتمنع عرضه ، أنا بكره هاروح لواحد محامى صاحبى يرفع قضية لوقف المسلسل .
قلت : بأى تهمة ؟ المحكمة سترفض الدعوى لأن اصحاب الشأن لم يعترضوا .
قال فى ثقة : بتهمة إهانة دولة صديقة ، و دى عقوبتها 25 سنة سجن .. صورة بريطانيا بتتبهدل يا ناس ، يقولوا إيه الأجانب لما الإنجليز يطلعوا صورة بريطانيا كده؟