ترندات المصريين
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
يهوى المجتمع الغربى العد و التعداد ، بينما نعتقد نحن أن العد ( يقل البركة ) و بينما يستخدم الغرب لغة الأرقام الواضحة المحددة ، نستخدم نحن لغة عاطفية مجازية ، ربما خوفا من أن تصدمنا الأرقام بحقائق ليست على هوانا و نخشى أن نواجه أنفسنا بها حتى لا تنكشف عورات تصوراتنا عن أنفسنا ، و لذا فنحن نبتعد عن الأرقام و نقول عن الكثير ( العدد فى الليمون ) دون أن نحدد ذلك العدد أو نوع الليمون ، و نقول عن القليل أنه ( قلة لا تذكر ) دون أن نكلف أنفسنا عناء ذكرها أو تذكرها.
و برغم أن الغرب يستخدم لغة الأرقام لأنها لا تكذب ، فإن لغة الأرقام عندما استوردناها جعلناها تكذب و تدلس و تزور أيضا بإضافة أرقام على هوانا أو بانتقاص أرقام لا نحبها أو بالتهوين من معانيها و ما تشير إليه و لعبنا بها لعبة الثلاث ورقات و ( أهى كلها أعداد ).
و لكن دعونا اليوم نواجه أنفسنا ببعض الأرقام الدالة و نحاول أن نستخلص منها حقائق ربما أفادتنا ، و أرقام اليوم هى : أهم الموضوعات التى بحث عنها المصريون على الشبكة العنكبوتية طوال هذا العام ( 2020 ) و التى أدارها محرك البحث العملاق جوجل و هو الأكثر استخداما فى مصر، و ميزة هذه الأرقام أنها صادقة فليس هناك أى مصلحة لجوجل فى تزويرها ، و بالتالى هى تكشف عن الاهتمامات الحقيقية للمصريين ، فأحد معانى كلمة ( ترند ) هو ( التوجه ) فما هى توجهات المصريين فى عام 2020 ؟ و لنبدأ بأول الصدمات :
يكشف جوجل أن أكثر شخصية مصرية تم البحث عنها هذا العام ليست شخصية سياسية أو رياضية أو فنيه بل هى ( حنين حسام ) و هى – لمن لا يعرفها – فتاة لها فيديوهات متعددة على موقع التيك توك و التى تمت استضافتها فى أحد البرامج التليفزيونية فأثارت ضجة بسبب أنها لقبت نفسها بهرم مصر الرابع . فانتبه إلى نشاطها أحد المحامين ، و تقدم ببلاغ إلى السيد النائب العام متهما إياها بالفسق و الفجور و الإتيان بأفعال فاضحة فى فيديوهاتها ، و خلال فترة التحقيق معها بدأت سلسلة بلاغات عن فتيات أخريات ينشرن فيديوهات أيضا على التيك توك ، و اتخذت حملة البلاغات عنوانا لها ( خلوها تنضف ) و هكذا ارتبطت أخبار حنين بمتهمة أخرى هى (مودة الأدهم) نجمة التيك توك أيضا ، و توالت بعدهما الأسماء مما جعل القضايا ( قضية رأى عام ) حول الحرية فى استخدام وسائل التواصل و بين التقييد و الالتزام بما يراه المجتمع مناسبا . و دافع البعض – فى البداية – عن حنين إلا أنه مع تدفق البلاغات و تعدد المتهمات و التهم خفتت تلك الأصوات المدافعة ، و سرعان ماصدرت أحكاما بالسجن و الغرامة ضدها و ضد أخريات.
و إذا دققنا النظر فى أرقام جوجل عن مستوى البحث عن أخبارها جغرافيا ، فإنه على عكس المتوقع لم تهتم المحافظات الأكثر انفتاحا كمحافظات القاهرة و الأسكندرية و البحر الأحمر و جنوب سيناء بالبحث عنها ، و لكن كانت الأعلى بحثا المحافظات الأكثر تحفظا ، مما يوحى بأسباب أخرى للبحث عنها بعيدا عن قضية الحرية الشخصية فى استخدام مواقع التواصل !!
ثانى الشخصيات المصرية التى تم البحث عنها على جوجل هو مطرب المهرجانات (حسن شاكوش) ، و هذا يجرنا إلى المفاجأة الثانية و هى أن أكثر الأغانى بحثا على محرك البحث العملاق هى أغانى المهرجانات ، إذ احتلت المراكز العشرة الأولى فى البحث بالترتيب الآتى : عود البطل / بنت الجيران / مهرجان هلا والله/ عود البنات / شمس المجره/ مع السلامه للي عايز يمشي/ مهرجان اخواتي / انا لما بحب/ سالمونيلا / لغبطيطا.
عشرة أغانى مهرجانات احتلت المراكز الأولى فى محرك البحث بينما لم تتواجد أغنية واحدة للمطربين الكبار ، و مع ذلك دفنت نقابة المهن الموسيقية رأسها فى الرمال و رفضت الاعتراف بمطربى المهرجانات و أغانيهم و قامت بمنعهم خاصة بعد إحيائهم حفل عيد الحب باستاد القاهرة و أصدرت النقابة بيانا جاء فيه : ( إنه في إطار الجدل المجتمعي الحاصل على الساحة المصرية ووجود شبه اتفاق بين كل طوائف المجتمع على الحالة السيئة التي باتت تهدد الفن والثقافة العامة بسبب ما يسمى أغاني المهرجانات والتي هى نوع من أنواع موسيقى وإيقاعات الزار وكلمات موحية ترسخ لعادات وإيحاءات غير أخلاقية في كثير منها وقد أفرزت هذه المهرجانات ما يسمى بمستمعي الغريزة وأصبح مؤدي المهرجان هو الأب الشرعي لهذا الانحدار الفني والأخلاقي وقد أغرت حالة التردي هذه بعض نجوم السينما في المساهمة الفعالة والقوية في هذا الإسفاف، حتى بات من الضروري إعادة النظر في كافة تصاريح الغناء. )
و برغم أن قليل من الكتاب كانوا ضد المنع و مع مجابهة الفن الردئ بفن أرقى و ليس بالمنع إلا أن النقابة أصرت على موقفها و كانت النتيجة انتشار هؤلاء المطربين فى فيديوهات يعزفون على نغمة تعرضهم للظلم و الاضطهاد ، و فى نفس الوقت استمرت أغانيهم فى احتلال المراكز الأولى و ليس على جوجل فقط و إنما فى (ساوند كلاود) أيضا ، و أصبح السؤال حتميا : من فعل هذا و أعطاهم تلك المكانة ؟
الإجابة : أنه المجتمع ، و ناس هذا المجتمع !! أو لو شئنا الدقة : هذا ما تفضله ( أغلبية المجتمع ) من أغانى ، و إذا كنت معترضا فالأرقام ستقنعك أو ستصدمك . فهل تشك فى ذوق الناس ؟
من حقك طبعا أن تتعالى و تتهم الناس بفساد الذوق و لكن استعد للمفاجأة الثالثة : هؤلاء الذين تشك فى ذوقهم ، و ربما تتهمهم بالانحطاط هم أيضا من جعلوا من المسلسل الوطنى ( الاختيار ) المسلسل الأول فى ترتيب البحث عن المسلسلات على جوجل ، و هذا مؤشر على مدى اهتمام هؤلاء الناس بالقضايا الوطنية و تقديرهم لجودة الصناعة و قيمة المنتج الفنى الراقى ( على عكس أغانى المهرجانات ) مما يفرض علينا إعادة تقييمنا لتلك الموجة من الأغنيات متذكرين ما حدث مع أحمد عدوية فى بداية ظهوره فى نهاية الستينات ، حيث جابه حملة مماثلة من التحقير و المنع و صار اليوم أحد اساطين الأغنية الشعبية !!
و بسبب الجودة أيضا يحتل مسلسل ( ماوراء الطبيعة ) – أول مسلسل مصرى من إنتاج منصة نتفليكس العالمية – المركز الثانى على محرك البحث برغم صدوره الشهر الماضى فقط . و يأتى مسلسل آخر لنتفليكس فى نفس القائمة و لكن فى المركز الخامس و هو ( لاكاسا دى بابيل أو سرقة الأموال كما أسموه بالإنجليزية ) مما يؤكد على أهمية جودة المسلسلات فى اختيارات المشاهدين بعيدا عن أسماء النجوم أو محاولة الادعاء من البعض بأنهم يحتلون المراكز الأولى و أنهم نمبر وان . و يؤكد الأمر أنه فى قائمة الموضوعات الأكثر بحثا على جوجل – و هى القائمة العامة التى تضم كل الموضوعات – و التى يأتى على رأسها جائحة كورونا ، و تليها نتيجة الثانوية العامة – يحتل مسلسل الاختيار المركز السابع ، و مسلسل ماوراء الطبيعة المركز العاشر دون أى ذكر لمسلسلات أخرى .
و نأتى للمفاجأة الأخيرة و هى مباريات كرة القدم الأكثر رواجا فنجد إنه فى الترتيب من الثالث إلى العاشر تحتلها مباريات النادى الأهلى سواء المحلية أو الدولية بينما يحتل الزمالك المركز الثانى فقط فى مباراته مع الترجى أما المركز الأول فكان لمباراة بين الأهلى و الزمالك . و هنا سنسمع أصواتا تتهم جوجل بالتآمر و المحاباة و ربما التزوير لصالح الأهلى و سنرفض لغة الأرقام و نعود ( للبركة ).