بؤساء فريد شوقي وليلى علوي
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
نصيحة مني لوجه الله، إذا كنتَ رجلا عجوزا مثلي وأردت أن تعود إلى الماضي وتستمتع بأيامه فاقرأ كتابا من الكتب التي قرأتها وأنت في أيام صباك، هكذا أفعل دائما، وهكذا أعيش في الأيام الخوالي وأستحضر شقاوتها وبراءتها، وأندمج من خلالها مع رفاق الطفولة والصبا الذين أبعدتني الأيام عنهم وأبعدتهم عني، فقد كنا نتبادل الكتب التي نقرأها، ونتحاور حول أحداثها، حينها كانت الآراء تختلف أحيانا ولكن القلوب كانت تتوحد دائما، ومنذ أيام وأنا على فراش المرض عدت لقراءة رواية (البؤساء) للكاتب الفرنسي (فيكتور هوجو) أبرز أدباء فرنسا في القرن التاسع عشر، وروايته (البؤساء) خلدها تاريخ الأدب واعتبرها النقاد واحدة من أعظم الروايات على مدار التاريخ، وهى من أعظم ما كتب (فيكتور هوجو) مع رواياته (أحدب نوتردام، وعمال البحر).
يكتب لنا (فيكتور هوجو) في روايته البؤساء عن فرنسا في القرن التاسع عشر، والثورات المتلاحقة فيها، يحكي عن الظلم الاجتماعي والمعاناة الكبرى التي كان يعيش في جحيمها الفقراء، وما بين سقوط (نابليون عام 1815) إلى الثورة الفاشلة ضد الملك (لويس فيليب) في أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر يدور الجزء الأكبر من هذه الرواية من خلال شخصية ذلك البائس الشريد المظلوم (جان فالجان)، فها هو جان فالجان يخرج من سجنه فيجد الدنيا وقد أغلقت أبوابها أمامه، وفوق هذا يتعرض لمطاردة لا تنتهي من الضابط الذي اتهمه بسرقة ما بعد خروجه من السجن.
كان (جان فالجان) رجلا قوي البنية، أعطاه الله قوة في جسده قلما توجد في آحاد الناس، وكان أن دخل السجن لأنه سرق خبزا لأخته وأطفالها الذين كانوا يتضورون من الجوع، ومكث سنوات عديدة في السجن بسبب محاولاته الهرب، وحينما يخرج من السجن يصطدم بهذا المجتمع الذي لم يرتق إلى مستويات العدالة، ستقرأ في كلمات جان فالجان عن العدالة والحرية، سيجري (فيكتور هوجو) على لسانه نظريات قانونية عن الجريمة والعقاب، ولكن حياة (فالجان) تتغير تماما حينما يستضيفه أحد الأساقفة، قدم الأسقف الخير، ولكن نزعة الانتقام كانت قد تملكت (فالجان)، فسرق من عند الأسقف بعض الأواني الفضية، وحينما تقبض عليه الشرطة يتحول الأسقف إلى ملاك من ملائكة الرحمة، طبعا يتحول في سلوكه وسماحته فيدعي انه هو الذي أهدى (فالجان) تلك الأواني، بل ويعطيه فوق ذلك شمعدانا هدية، ويتحول (فالجان) بسبب فعل الخير الذي قوبل به إلى شخصية أخرى، أصبح رجلا من رجال الله الذين يسعون لتقديم الخير، وتبدلت حياته، وأصبح ثريا، ثم عمدة لإحدى البلاد، وتسير الحياة على وتيرتها إلى أن تتقاطع حياة فالجان مع طفلة صغيرة لها قصتها الخاصة فيتبناها وتصبح كأبنته.
هذا الرجل الذي تظل الشرطة تطارده وكأن الذنب الذي ارتكبه وهو صغير ظل معلقا على رقبته لا ينفك يغادره، هذا الذي أصبح قديسا يقدم الخير للجميع، يقع ضحية النكود والنكران حتى من تلك الصغيرة التي كبرت وشبت عن الطوق، يجبرها زمانها على أن تتنكر له إلا أنها تعود له قبل موته لتستغفر وتقدم آيات الندم.
تلك القصة التي أخرجتها السينما العالمية في العديد من الأفلام وحظيت باهتمام كبير، ونالت بعض النسخ منها جوائز الأوسكار، إلا أنني بدون تحيز أقطع بأن النسخة التي قام ببطولتها الفنان الراحل (فريد شوقي عام 1978) كانت هى أفضل تلك النسخ، وبالرغم من أن السينما المصرية قدمت تلك القصة عام 1943 من خلال فيلم أخذ نفس الإسم (البؤساء) قام ببطولته الفنان الرائع (عباس فارس) في دور (جان فالجان)، وكان الضابط الذي يطارده هو الفنان الكبير (سراج منير)، ورغم أن هذا الفيلم قدم تلك القصة بشكل رائع ومثير للمشاعر، إلا أن نسخة (فريد شوقي عام 1978) كانت هى الأعلى.
وكان ذلك أمر طبيعي، فتقنيات السينما كانت قد تقدمت، والخبرات تراكمت، وتجارب السينما العالمية لهذا الفيلم قد تعددت، الأمر الذي أضفى على نسخة (فريد شوقي) بعدا جديدا، زاد عن ذلك الفنان فريد شوقي نفسه الذي كان قد وصل إلى أعلى درجات نضوجه الفني، فهو يمثل بصوته، وخلجات وجهه، بحيث أنك تستطيع أن تقطع أن لم يكن يمثل ولكنه كان يعيش الحدث نفسه، وكان في بعض اللحظات يصل في اندماجه مع الشخصية إلى درجة مذهلة، أما الأمر الذي زاد من قيمة المبارة التمثيلية في هذا الفيلم فهو مستوى الأبطال، فقد كان يمثل دور الضابط الفنان الداهية عادل أدهم، الذي كان يجبرك على أن تكرهه حتى وهو يؤدي دور ضابط الشرطة الذي يطارد مجرما قديما، كما كان وجود يوسف وهبي في هذا الفيلم بخبراته وموهبته التي لا نظير لها عاملا مؤثرا في ارتفاع درجة الاتقان، هؤلاء ثلاثة من العمالقة (فريد شوقي وعادل أدهم ويوسف وهبي)، لو أردت أن تصنع من خلالهم نجما سيحدث، وقد حدث.
فمن هو النجم الذي صنعه هذا الفيلم وصنعته تلك الثلة من العمالقة؟! ( ليلى علوي) التي كانت بالكاد وقت هذا الفيلم تغادر طور الطفولة وتدخل إلى سن المراهقة، تلميذة في بداية المرحلة الثانوية تبلغ من العمر خمسة عشر عاما، من سكان حي مصر الجديدة، صعدت على المسرح لتشارك في إحدى المسرحيات فالتقطتها عينٌ خبيرة واختارتها لتقوم ببطولة (بؤساء فريد شوقي)، وياللحظ الذي بسط سجادته الحمراء أمام الصغيرة (ليلى)، هذا حظ لا يمكن أن يرد على بال أحد ولا حتى في الأحلام، حيث سيضعها حظها، أو قدرها، في صدارة أحد الأفلام الكبيرة مع فريد شوقي ويوسف وهبي وعادل إمام وعبد الوارث عسر وغيرهم وغيرهم.
تلك الطفلة التي ستقوم بدورالفتاة المتبناه، والتي كان من شروط الدور أن يكون وجهها بريئا، لم تصافحه العيون بعد، لذلك غاب عن الترشيحات النجمات اللاتي كن قد أصبحن من علامات سينما السبعينات، لم يفكر المخرج العبقري (عاطف سالم) في (مرفت أمين، أو نجلاء فتحي أو نيلي، أو أو أو)، وقد كانت هناك الكثيرات ممن يصلحن للقيام بهذا الدور، ولكن سبحان الله، وكأن هذا الدور كان يسعى لتلك الفتاة، فهل تستغل الفرصة التي سنحت لها.
لم يكن هناك الكثير لتفعله ليلى علوي اللهم إلا أن تؤدي دورها على طبيعتها، ببراءة شديدة، وهدوء، يجب أن تظهر عليها علامات الرومانسية الحالمة، فهى ستقع في غرام (كمال) الشاب الثوري المثقف ابن أحد كبار الأثرياء (يوسف وهبي)، ويجب مع البراءة أن يظهر عليها قدرٌ من الأنوثة المبكرة، الغضة، النقية، التي لم يكشف سترها أحد، ولأن الكاتب السيناريست (رفيق الصبان) رسم دورها بشكل دقيق، ولأن المخرج كان هو (عاطف سالم)، ولأن الرعاة كانوا هم فريد شوقي ويوسف وهبي، لذلك كانت العناية بجوار تلك الفتاة الصغيرة التي لم يكن لها أي خبرات مؤثرة من قبل، اللهم إلا الظهور في بعض برامج الأطفال، ثم في مستقبل الأيام توسدت مكانتها ليس بسبب جمالها، ولكن بسبب موهبتها التي نضجت على مهل.
وكان أن نجحت ليلى علوي في (البؤساء) ولفتت إليها الأنظار، وحين خرج إلينا الفيلم سارعت إلى رؤيته في حفلة العرض الأولى عام 1977، فقد كنت قد انتهيت من قراءة الرواية قبل عرض الفيلم، وكاد الشوق يقتلني لأرى شخصياته على الحقيقة، يتحركون ويتشابكون، وعندما شاهدته في إحدى سينمات مصر الجديدة اندمجت مع أحداثه، وتفاعلت مع شخصياته، فقد كان الفيلم بتوقيع (عاطف سالم)، وبطولة العملاق (فريد شوقي) الذي أرى أن دوره في الفيلم في شخصية (حامد حمدان) هو أروع أدواره على الإطلاق، ومعه (يوسف وهبي وعادل أدهم وعبد الوارث عسر حكيم السينما المصرية)، وفتاة صغيرة اسمها (ليلى علوي) كتب لها القدر أن تكون في مستقبل الأيام إحدى النجمات الكبار في السينما العربية.
عرض ممتع وشيق من كاتب متمكن