دانتيل .. قطعة درامية مطرزة بالرومانسية
بقلم : محمد حبوشة
ربما مرت مسافة زمنية بعيدة إلى حد ما على انتهاء عرض مسلسل (دانتيل)، لكن يبقى لرونقه وبريقه الآخاذ مكان في ذاكرة المشاهد العربي، جراء قصة رومانسية نحن أحوج إليها الآن أكثر من أي وقت مضى، ففي ظل التفاعلات والانقسامات السياسية الحادة في لبنان جاءت أحدث المسلسل لتؤكد أن هذا البلد العربي محب للحياة بحق ويمكنه العيش بحب أكثر وسط أجواء كئيبة، وهو ماظهر في حلقات هذا المسلسل التي استطاعت أن تشدنا منذ البداية، فإضافة إلى اسمه الذي يحرك لدى المشاهد العربي فانتازيا الحلم والرومانسية المفقودة في غالبية أعمالنا الدرامية، فهو يعد عملا مغايرا يصبّ في تجديد وتحديث شرايين الدراما العربية بشكل عام.
ظني أن عملية (الكاستينج) الصائبة التي تغلف العمل باختيار موفق للبطلين (سيرين عبد النور ومحمود نصر)، ذلك الثنائي التمثيلي الذي سبق وشارك في عمل درامي رمضاني (قناديل العشاق) في عام 2017، ولاقى صدى طيبا في حينه لأنه يقترب في أجوائه إلى نفس النسق الرومانسي الذي شهدها (دانتيل)، وإن كانت الظروف والأحداث مغايرة ، إضافة إلى أسلوب إخراجه المتألق بحرفية عبر كاميرا (المثنى صبح) أسهما بالتأكيد في جذب المشاهد وتعلقه به من خلال تطبيق (شاهد VIP) على مدار 30 حلقة.
قصة المسلسل تمتعت بالحيوية والنعومة الشديدة، في قالب رومانسي اجتماعي لافت للانتباه، ليس لأنه يطرح قصة حب مختلفة مع قصص اجتماعية منوعة تطاول كل عائلة عربية، بل لأنه يعد صناعة احترافية في الدراما العربية من حيث الشكل والمضمون، فقد تم التصوير في أجواء تعكس حقيقة عالم (الفاشون) والصراعات التي تدور بداخله، مع عرض سير للعاملات في هذا المجال بواقعية واضحة مستمدة من قصة اشتغلا مولفتيها على التفاصيل الدقيقة، لذا ومنذ عرض حلقاته الأولى حقق هذا العمل الدرامي نسبة مشاهدة مرتفعة عربياً بحيث تصدّر الـ (ترند) في السعودية، فعلى مايبدو عنالك تعطش كبير لدى فتيات المملكة في ظل حالة الانفتاح الجديدة.
الحقيقة أن كتابة كل من (إنجي القاسم وسماء عبد الخالق)، رغم أنها مأخوذة عن عمل إسباني سبق وعرض على منصة (نتفليكس) الإلكترونية تحت عنوان (فلفيت)، إلا أنهما نجحا في تعريب القصة على نحو جيد للغاية، واستطاعا رصد تفاصيل فنية خاصة بالمجتمع العربي الذي شهد تطورا كبيرا في استقبال صرعات الموضة ومواكبة حالة التطور المذهلة في عالم الأزياء على مستوى الفخامة والألوان واللمسات الفنية الرقيقة، فضلا عن براعة الحوار الذي جمع بين (سيرين عبد النور ومحمود نصر) بأداء ناعم تتدفق من خلاله شحنات رومانسية تقوى على القفز فوق تجاوزات الفعل السياسي الرجيم في لبنان وباقي الأقطار العربية التي تعاني من بقايا ما يسمى بـ (الربيع العربي) الذي مزق كل القيم وأعلى من شأن المؤمرات الكبرى التي تستهدف دول المنطقة الأكثر توترا في العالم.
نعم خلال الثلاثين حلقة من مسلسل (دانتيل) من (إنتاج شركة إيغل فيلمز) غدا متنفساً لدى المشاهد اللبناني الغارق بأحزانه ومآسيه وبأوضاع سياسية معقدة، وانسحب الأمر بالتأكيد على باقي الأقطار العربية، وصار المشاهد ينتظره يوميا بفارغ الصبر من طوال خمسة أيام من الأسبوع ليهرب معه إلى أجواء الحب والهدوء في كنف شحنات رومانسية تقوى على انتشالنا من حالات اليأس والكأبة، وانخرط المسشاهدين في تتبع أخبار الموضة، مع تطور أحداث حلقات (دانتيل) الذي يحمل اسم دار الأزياء الذي تعمل به ميرنا (سيرين عبد النور) خياطة مع زميلاتها (سارة أبي كنعان وزينة مكي وتاتيانا مرعب) وتدير المشغل (نهلة داود)، فيما يتولى (نقولا دانييل) إدارة الدار، أما محمود نصر (يوسف) فهو ابن صاحب الدار الذي يعود بعد غياب إلى البلاد، ليصطدم بمشكلات كثيرة تقف عقبة في إكمال قصة حبّه المستحيلة مع (ميرنا) الخياطة البسيطة صاحبة موهبة تصميم الأزياء.
باحترافية كبيرة ونضج لافت للغاية تألق بطلي المسلسل في أدائهما الذي يدور ضمن إيقاع يجمع بين الكلاسيكية والعصرية في قالب واحد، وقد ساهم في براعة الأداء على نحو مختلف هذه المرة بين (سيرين ونصر) أن التصوير والإضاءة، وحركة الكاميرا بقيادة ضابط إيقاعها المبدع (المثنى صبح) كلها عناصر كانت غاية في الانضباط الذي اكسب العمل بريقا أخاذا ورونقا جاذبا، فـ (سيرين عبد النور) قدمت أحد أجمل أدوارها الدرامية حتى الوقت الراهن، على جناح همس حديثها الجذاب، وحركة جسدها المحسوبة بدقة متناهية، حتى بدت تشع ضوءا مشبع بألوان قوس قزح، ومن ثم فرضت نجوميتها على المشاهد بأسلوبها السهل الممتنع، ويبدو أنها تعي جيدا أنه يجب على الممثل أن يفهم تمثيل الإحساسات أو الإنفعالات تتولد من تلقاء نفسها عن الطريق الذي يحدث الحدث و لا يحتاج إلى تصنعها و التكلف بتمثيلها كما انعكس على تطور أدائها.
في حين أن محمود نصر الذي يتعرف عليه المشاهد اللبناني عن قرب هذه المرة، بعدما تعلق به في مسلسل بعنوان (الأخوة) عام 2016، ولقد لاحظت أن هذا النجم السوري الشاب الواعد زاد تألقا في السنوات القليلة الماضية، وتحول بفضل ما يحمله من ملامح رجولية ووسامة إلى رجل أحلام نساء كثيرات في زمن قل وفاء الحبيب لحبيبته، وربما هذا يعيدنا إلى أجواء فن الزمن الجميل (أيام رشدي أباظة وكمال الشناوي وعمر الشريف) وغيرهم من نجوم قدموا لنا نماذج رومانسية لاتزال خالدة في شريط السينما العربية، من خلال أداء عذب يعتمد فن تقمص الشخصية المطلوب تمثيلها على الشاشة، بعد لبس جلدها والظهور في صفاتها بقدر المستطاع وتبعا لما رسمته من معالم الشخصية وهو أداء مقيد بأصل أو بنص مكتوب.
محمود نصر.. ممثل يعرف جيدا الصفات التي يجب أن تتوفر بالممثل المحترف والتي يجب عليه من خلالها أن يخلص للدور الذي يؤديه، بحيث يعيش في مجتمع الدور و بإحساس صادق، و في هذا الصدد فإن (نصر) بذل جهدا كبيرا كما بدا في (دانتيل) في محاولة الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان، و على هذا الأساس يمكننا تحديد قوة الممثل أو ضعفه أو ما يسمونه بالموهبة الفنية التي توفرت لديه، ويبدو أن الثقافة مهمة بالنسبة له، فكما أعلم أنه يجمع الكتب التي تبحث في شئون المسرح و فن الممثل ويهتم بقراءة الشعر وزيارة المسارح والمتاحف، وذلك في إطار أن يكون ملماً بأغلب المشاعر و الأحاسيس ، فالممثل لا يستطيع أن يؤدي الدور بإحساساته الشخصية وحده، بل لابد من أن يتعرض لخبرات الآخرين.
أما المخرج السوري (المثنى صبح) فسبق وقدم لنا عشرات الأعمال الدّرامية التي كان ومازال لها وقعها الإيجابي على المشاهد العربي، فقد أتحفنا بعمله الرائع (العراب) و(حارة الشيخ) والمسلسل السعودي (العاصوف) وغيرها من علامات بارزة في تاريخ الدراما السورية الحديثة، وها هو اليوم يضيف لمسيرته في (دانتيل) بعمل خارج عن المألوف بدءا من الموضوعات التي يتناولها مرورا بكيفية إدارته لفريق التمثيل بأسلوب تلقائي وحقيقي ووصولا إلى مشهدية إخراجية محدثة تأخذنا إلى عالم الفن الجميل في ثوب عصري قشيب.
ولا يمكني أن أغفل باقي فريق العمل التمثيلي الذي أدى كل منهم دور البطولة على طريقته الخاصة، وعلى رأسهم القدير والمخيف (سلوم حداد)، والمتمكن بحرفية وفطرية (نقولا دانييل) و(نهلة داود) التي تمتعت بصلابة الشخصية مع قدر من الضعف الإنساني الذي عبرت عنه بجدارة، و(شربل زيادة) الذي برع في ابتكار تكنيك خاص بشخصية مصمم الأزياء على مستوى حركة الجسد والمزاج النفسي المتقلب طوال الوقت، و(زينة مكي) في تلقائيتها المعهودة التي تنم عن طيبة شديدة إلى حد قربها من قلب المشاهد الذي يشعر بأنها مثل ابنة أو أخت ينبغي تدليلها من فرط تلقائيتها.
باختصار استطاع (دانتيل) أن يجذب المشاهد اللبناني والعربي وأن يظلله بغيمة حالمة محفوفة بأجواء ماطرة تارة ومشمسة تارة أخرى، بحيث تفاعل المشاهد مع دموع (ميرنا) وحالات الخيبة لدى ()يوسف، وهما يأخذان بيد المشاهد بأدائهما الطبيعي إلى أجواء التحدي والرومانسية ضمن قصة حب صعبة، لكنهما حاولا تذليل عقباتها طوال الوقت، ومن ثم خلق (دانتيل) مساحة فنية بامتياز لمتابعيه أولئك التواقين لمشاهدة عمل درامي من هذا النوع الرومانسي الذي نفتقده حاليا، ولقد نجح المسلسل في فتح ثغرة مضيئة في يوميات المشاهد العربي المثقلة بالهموم وفيروس كورونا وبالأزمات الاقتصادية والسياسية الحادة، التي نالت بالتأكيد من نفسية مشاهد وجد في (دانتيل) فرصة سانحة للانفصال عن واقعه المرير ليحلق معه في أجواء حالمة مغلفة بطابع رومانسي ناعم يبعث على الانسجام.