رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

مجتمع مليئ بالاصنام

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

تطالعنا الصحف يوميا بأخبار القبض على أشخاص ، بعضهم بسبب تورطهم فى جرائم جنائية أو سياسية و البعض الآخر بسبب جرائم مستحدثة مثل النشر على وسائل التواصل سواء بالكلمة او الصورة ، و آخرها تلك الفتاة التى نشرت صورها فى أحد المواقع الاثرية و هى ترتدى ملابس فرعونية ، و الحقيقة أن تهمة تلك الفتاة لم تكن واضحة ، هل تم القبض عليها لأنه تم تصويرها بدون تصريح و بدون دفع الرسوم المقررة لاستغلال المواقع الأثرية ؟ أم لأن تلك الصور كانت بملابس مكشوفة ؟ أم كان السبب – كما قال البعض – انتهاك قدسية المكان الأثرى ؟ على اعتبار ان المكان به مقابر لملوك مصر القدماء.

لا اعتقد إن من قالوا بقدسية المكان كانوا يقصدون هذا حقيقة ، هم بالغوا كثيرا فى استخدام لفظ ( القدسية ) و الا لو أصروا على أن المكان هو مكان مقدس فعلينا أن نحاكمهم بتهمة تقديس الفراعين ، و تهمة اتباع ديانة جديدة – أو قديمة – تقدس المقابر . أما الذين تحججوا بالملابس المكشوفة ، فلا أعتقد أن هناك مادة فى القانون تحدد ماهية و حجم المكشوف و المغطى ، و أنها مسألة تخضع للعرف و التقاليد ، و لقد نشر البعض صور قديمة لراقصات شرقيات أمام مقاصد سياحية و منها صورة لراقصة أمام الهرم الأكبر تخفى جسدها بشمسية بما يوحى أنها عارية و لم يتم القبض على أيا منهن فى أى عصر.

و لو اعتبرنا أن ملابس تلك الفتاة كانت مكشوفة فعلينا أن نغطى صور الفتيات على كل المعابد فبعضهن يرتدين ملابس مكشوفة أكثر، و علينا أن نراجع بعض الرسومات على المعابد و أن نغطى بعض النقوش ، هذا فى عصر الفراعين أما فى العصر الحديث فعلينا أن نغطى كثير من لوحات كبار الفنانين التشكيليين و كذلك التماثيل خاصة فى العصور القديمة و أن نحاكم كثير من سيدات المجتمع و الفنانات بسبب ملابس السهرة التى هى أكثر كشفا من ملابس تلك الفتاة.

الحقيقة أن مجتمعنا أصبح مهووسا فى الفترة الأخيرة بالمبالغة فى تقدير الأمور ، و إطلاق الأحكام الجزافية و تضخيم الأحداث و ردود الافعال ، و ساعدت بعض الأحداث على إضفاء القداسة على أشياء غير مقدسة ، فقبل إطلاق لفظ القداسة على الأماكن الأثرية فوجئنا بمن يضفى القداسة على الإذاعة و يصور انتقاد طريقة إلقاء بعض المذيعين و كأنه خوض فى مقدسات ، و أخشى ما أخشاه أن تستمر الحال و تنتشر فنجد المقدسات من حولنا تنتشر حتى نتحول إلى مجتمع مليئ بالأصنام مرة أخرى بعد أن هدانا الله إلى الإسلام .

و أعتقد أن إطلاق صفة القداسة على الأشياء و الأشخاص غير المقدسين ربما استشرت فى المجتمع نتيجة إصرار بعض الشيوخ على عدم نقد التراث و كتبه و رجاله ، برغم أنه فى كل المراحل التاريخية نجد نقدا لتلك الكتب ، بل إن بعضا ممن ننظر اليهم بكل تقدير و احترام و يبالغ البعض فى رفع مكانتهم ربما اتهموا فى لحظات تاريخية بالكفر او الهرطقة . و لكن إضفاء القداسة انتشر فعليا من معارك الشيوخ الى بقية مناحى المجتمع ، و بدأت بكلمة ( الخط الاحمر ) التى انتشرت فى فترة ثورة 25 يناير ، لتطلق على أشياء كثيرة حتى وصلت إلى اعتبار فريق لكرة القدم خط أحمر !!

و من ضمن ردود الأفعال العنيفة ماتم مع فتاة المواقع الأثرية ، و لكن القضية أكبر من موقف عابر و من السخرية ، القضية تكمن فيما صرحت به الفتاة من أنها أصيبت بالاحباط و فكرت فى الهجرة ، و قد يقول قائل و ما المشكلة ؟ المشكلة ببساطة إننى سمعت نفس النغمة من أصدقاء للشاب صاحب فيديو الإذاعة و خاصة زملاؤه من ( الستاند اب ) و هو نوع يعتمد على النقد الاجتماعى و باتوا يتخوفون من أى رد فعل مبالغ فيه لما يقدمون ، فكل مهنة تعتبر نفسها خط أحمر و كل جماعة ادعت لنفسها وضعا مقدسا ، و كانت النتيجة أنهم يخشون على أنفسهم و يتمنون مغادرة هذا المجتمع و حتى لو لم يهاجروا فقد هاجرت قلوبهم و كرهوا مجتمع يقوم بردود أفعال لا تتسق – من وجهة نظرهم – مع ما يقدمه هؤلاء الشباب من نقد ساخر حتى و لو أخطأوا ، و كل هذا يؤدى فى النهاية إلى وجود شباب يكرهون المجتمع و لا يشعرون بالانتماء إليه .

يجب أن نعترف أولا بأننا فى حقبة مختلفة و أمام تحديات ثقافية و اجتماعية جديدة بدخولنا عصر السوشيال ميديا التى صارت ميدانا للمعارك و باباَ للشكوى و حلت محل دور النشر ، و نافست قنوات الأخبار ، و بلغت من الخطورة بمكان حتى حذر السيد النائب العام من خطورة الاستخدام غير الرشيد لها فى أحد بياناته .

و لكن من رأيي أن المخالفات التى تحدث على السوشيال ميديا لابد و أن تعامل بشكل مختلف – و لست أتكلم هنا عن استخدام السوشيال ميديا فى جرائم حقيقية مثل الدعارة أو تسهيلها أو الابتزاز أو غيرها من الجرائم المؤثمة – فمعظم مرتكبى المخالفات – التى لا ترقى لمستوى الجرائم – من الشباب ومن هم فى سن المراهقة ، فهل السجن ، و مايؤدى إليه من تغيرات فى الشخصية و اعتبار أن تلك سابقة توضع فى سجل الشخص هو ما نسعى إليه من تقويم و إصلاح ؟ أليس من الأجدى و الأنفع ابتكار وسائل عقابية أخرى تُصلح المتهم دون تدمير نفسيته و هدم مستقبله ؟ ، إن معظم جرائم السوشيال ميديا ناتجة عن حب الظهور و البحث عن الشهرة و ليست صادرة عن عقل إجرامى يفكر فى أذى الغير ، فلماذا لا نضع فى حسباننا أن حب الشهرة هو مرض .

و لا أبالغ إذ أدعو المختصين من أهل القانون و دراسات علم الاجتماع و علم النفس لإعادة النظر فى جرائم السوشيال ميديا ، فالهدف من وراء تجريم بعض الأفعال هو الحد من انتشارها ، و لا ينطبق هذا على وسائل التواصل ، فبمجرد القبض على صاحبة فيديوهات على التيك توك صارت الأعلى بحثا على محرك البحث العملاق جوجل هذا العام ، و تفوقت على جميع الشخصيات المصرية فى جميع المجالات ، أى أن القبض عليها ساعد على شهرتها و انتشار مايراه القانون مجرما ، و ربما ما كان هذا مادفع شابا لأن يختلق لنفسه خطيبة و يصور فيديو يتجاوز فيه بحقها من أجل تحقيق الشهرة .

وفى نفس الوقت على المتخصصين إيجاد وسائل تحول دون انتشار ما فعله المتهم على وسائل التواصل حتى لا يتم له تحقيق غرضه من النشر .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.