(ذا كراون).. لعنة الحقيقة وجودة الصناعة
بقلم: محمود حسونة
الصدق هو علامة الجودة في الفن، به يصل الفنان إلى القمة إبداعاً ويصل العمل إلى الجمهور وكأنه اليقين، ويلامس المتلقي المتعة التي تدوم معه وتتجاوز وقت مشاهدة العمل الفني أو قراءته أو الاستماع إليه.
من الأعمال الفنية التي يصل فيها الصدق إلى الذروة، مسلسل (ذا كراون) أو (التاج) الذي عرضت الجزء الرابع منه مؤخراً منصة نتفليكس، وسيظل متابعوه يترصدون الجزء الخامس لأجل مزيد من المتعة التي ينفرد بتحقيقها هذا المسلسل لمشاهديه.
الصدق في المسلسل لم يصنعه عنصر معين من عناصر إبداعه، بل شارك فيه الجميع ابتداء من النص الذي كتبه السيناريست البريطاني بيتر مورجان، وأبدع في صياغة الحقائق التاريخية التي شكلت سيرة الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا منذ 6 فبراير 1952 وحتى اليوم، وهى الحقائق التي يمكن أن يحسبها البعض خيالاً من حبكة السيناريو ودقة اختيار كلمات الحوار، وهي ذاتها الحقائق التي جعلت من الملكة حارساً على قيم التاج الذي حاولت أن تفرض على كل أفراد العائلة المالكة الالتزام بها، حتى ولو كان على حساب مشاعرهم وانسانيتهم، فالكل يتعبد في محراب التاج مهما كلفه الأمر، ولعل حرص الملكة اليزابيث على قيم التاج مرده فقدان عمها الملك إدوارد الثامن لموقعه بسبب قصة الحب الأشهر في التاريخ الحديث لواليس سيمبسون وكان اسمها الحقيقي بيسي واليس وارفيلد، وهي أمريكية من بنسلفانيا ومطلقة مرتين، وعندما وقع الملك في غرامها وقرر الزواج بها أحدث الأمر أزمة في المملكة المتحدة، ولَم يكن أمامه سوى التنازل عن العرش للزواج منها، مفضلاً العيش مع من اختارها قلبه عن الجلوس على عرش بريطانيا ودول الكومنولث.
المسلسل بدأ عرضه عام 2016، وعلى مدار أجزائه يؤكد لمتابعيه أن حياة القصور الملكية ليست نعيماً كما يتوهم البعض، ولكنها في أحيان كثيرة تكون جحيماً، والملكة ذاتها عانت من مشاكل ولم تستطع البكاء أو التألم أمام أحد، و(ابتلعت) خيانة زوجها لها وهى صامتة حتى لا تهين مكانتها ولا التاج الذي يضعها صورياً فوق أي جراح أو آلام.
لم يكن الملك إدوارد الثامن الذي تنازل عن العرش عام 1936 وتم نفيه ليعيش في فرنسا، وحده ضحية التاج، ولكن جميع أفراد العائلة المالكة دفعوا أثماناً، وعلى رأسهم الأمير فيليب زوج الملكة، ولكنه حاول التمرد وتحطيم القيود خلال شبابه ثم أذعن وخضع، والأميرة مارجريت الشقيقة الوحيدة للملكة التي ضحت بأول حب في حياتها ووافقت صاغرة على ترك حبيبها، وعاشت الضياع العاطفي وفقدان الذات بعد أن تحولت إلى صورة ملكية باهتة لشقيقتها، وأيضاً الأمير تشارلز الذي تربى بعيداً عن حضن أمه حتى يكون جديراً بولاية العهد، ولَم يجد ذاته لا في القصر ولا في ولاية العهد ولا مع زوجته ملكة القلوب الأميرة ديانا، بل وجد نفسه فقط مع كاميلا باركر التي كانت متزوجة، وكان يخون ديانا معها قبل وبعد زفافهما، ثم تزوجها بعد مقتل ديانا التي دفعت حياتها ثمناً لقيم التاج وحب الناس لها وتجاهل زوجها لمشاعرها، ولَم تسلم الأميرة آن شقيقة تشارلز من دفع الثمن مثل جميع سكان القصور الملكية في بريطانيا.
الغريب أن (ذا كراون) استقبلته العائلة المالكة والشعب والحكومة في بريطانيا بشكل عادي خلال الأجزاء الثلاثة السابقة، ولَم ينزعج منه أحد وتابعوا أحداثه على أنها حقائق (عابرة) في حياة الملكة وعائلتها ورؤساء وزاراتها الذين وردت عن أخلاقيات بعضهم ما يمكن أن يثير انزعاج بعض المشاهدين، إننا عندما عرض الجزء الرابع قامت القيامة، لأن هذا الجزء يركز على زواج تشارلز من ديانا وخيانته لها وردها عليه بالخيانة، بعد أن يئست من إمكانية تحويله إلى زوج وحبيب مخلص، وطالب وزير الثقافة البريطاني أوليفر دودن شبكة نتفليكس، خلال حوار أجرته معه جريدة (ذا ميل) مؤخراً، بالتنويه بأن بعض أحداث المسلسل خيالية، وقال: (إنه عمل خيالي تم إنتاجه بشكل جميل، لذا يجب أن تكون نتفليكس واضحة جدًا منذ البداية، كما هو الحال مع الإنتاجات التلفزيونية الأخرى.. أخشى أن جيلًا جديداً من المشاهدين لم يعش هذه الأحداث، قد يخطئ ويظن أن ما يشاهده في المسلسل هى أحداث حقيقية)، والكلام يأتي بعد التفاعل الكبير الذي حققه هذا الجزء عن سابقيه نتيجة الشعبية التي حققتها ديانا في بريطانيا وعالمياً، وجاء المسلسل ليؤكد أنها لا زالت مركز اهتمام الناس رغم وفاتها قبل 23 عاماً، وبعد أن فشلت أي من أميرات بريطانيا وسيدات المجتمع العالمي في أن تملأ مكانها حتى اليوم.
قصة ديانا وتشارلز لم تنته بعد، وسوف يستكملها المسلسل في الجزء الخامس الذي ينتظره الجمهور بشوق كبير، والذي سيشهد تمرد الأميرة علانية وطلاقها وحادث مقتلها وهي أحداث مازالت تشغل الناس لكثرة القيل والقال واختلاف الروايات بشأنها.
الصدق الفني في المسلسل لا يقتصر على الأحداث والأداء والإخراج والديكور فقط، ولكن من الواضح أن فريق العمل درس التاريخ والشخصيات جيداً ليأتي الأداء متطابقاً مع كل شخصية في طريقة الكلام واللفتة والنظرة وحركة اليد والملابس، وهو ما كشف عنه موقع (إسكواير) البريطاني في جولة للمقارنة بين الواقع وأحداث العمل، من خلال الصور الحقيقية التي نشرها وما يقابلها من صور للمسلسل، ليؤكد أنه يكاد يكون صورة طبق الأصل في كل شيء.
النجاح لا يأتي أبداً من فراغ، وكل من يحصد نجاحاً يستحقه لأنه من المؤكد قد جاء بعد جهد وتعب وموهبة وإخلاص وصدق، وهذا ما يؤكده (ذا كراون)، ولن تكون الشخصيات الواردة بالمسلسل آخر ضحايا التاج البريطاني، فها هو الأمير هاري وزوجته ميجان ميركل يهربان من جحيم التاج إلى نعيم حياة الأفراد العاديين في أمريكا، وإن كانت لعنات التاج لحقت بهما وتطاردهما هناك.
mahmoudhassouna2020@gmail.com