نمبر تو
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
مازالت ردود أفعال الشعب المصرى تصيبنى بالدهشة ، فعلى السطح قد لا يُظهر اهتماما و تراه منشغلا بأمور أخرى ، إلى أن تأتى الأحداث ، عندها ينتفض و قد أزال عن كاهله الأتربة و غبار المعاناة اليومية و الجرى وراء لقمة العيش ، و سرعان ما يعبر عن نفسه بوضوح و جلاء، فترى جوهره الأصيل.
ذلك ماحدث فى موضوع ( نمبر وان ) فكانت ردود أفعال المواطنين أقوى مما نتصور، و أعمق مما نتخيل و لم أكن وحدى من وجهت له الشكر أنه بموقفه هذا و بما أقدم عليه قد زادنا يقينا أن رفض التطبيع إجماع شعبى و عقيدة راسخة لدى المصريين ، و حتى الأجيال الجديدة التى لم تكن تعرف أسباب ذلك الرفض ، فإنها تمسكت برفضها أكثر و أكثر عندما تنبهت لجذور الصراع و حتمية استمراره ، و سارعت طبيعة المصريين الساخرة فى احتلال الفضاء الافتراضى بكمية من الكوميكس و الفيديوهات و خاصة بعد لحظة سقوطه التى عبرت عما وصل إليه.
و لكن الجدير بالملاحظة هو اختفاء أصحاب القلوب (الرقيقة) و النفوس (الرهيفة) المنادين بالتعامل الطبيعى بيننا و بين الكيان الصهيونى الغاصب ، و تركوا ( نمبر وان ) ليواجه مصيره وحده . لم نسمع لهم صوتا فى تلك الأزمة المثارة و لم يحدثونا عن نظرياتهم حول تغير الواقع ، و التعامل مع واقع جديد و نسوا دعواتهم المحبة للسلام التى تغطى خنوعهم التام للامر الواقع و استسلامهم للمغتصب عملا بمبدأ : إذا لم تستطع مقاومة الاغتصاب فعليك أن تستمتع ، فمضوا يستمتعون فى صمت.
حتى أولئك الذين أصابهم الارتباك و تخيلوا أن بالإمكان التعامل مع فنانين يؤيدون حق الكيان المغتصب دون أن يعتبر هذا تطبيعا أصابهم الخرس أمام هبة المصريين الرافضة للتطبيع ، و البعض الآخر الذين كانوا تحت دعاوى أن الفن لا علاقة له بالسياسة و بالمواقف السياسية ، يتصورون أن الإعجاب بفنان إسرائيلى أمر إنسانى و عادى ، و أنه لا مانع من التعامل مع فنانى الكيان ، و كانت حجتى ضدهم أنه مادام الفنان يعيش على أرض مغتصبة و يعمى عيونه عن بشاعات الاحتلال فقد انتفت عنهم صفة أنه فنان بل و صفة الإنسانية ، و لكن الأصدقاء المرتبكين قالوا و ماذا يفعل أى فنان و قد ولد فى هذا المجتمع بلا ذنب ، و نشأ فى مجتمع لا يستطيع الوقوف أمام أخطائه !!
و لكل هؤلاء الذين اعتبرهم ( نمبر تو ) أهدى لهم القصة التالية :
نشرت جريدة مصرية نقلا عن موقع اسرائيلى يسمى ( يهود من اجل السلام ) أن فتاة إسرائيلية تبلغ من العمر 19 سنة ( و بالفصحى و للتأكيد : تسعة عشر عاما ) قد تم سجنها للمرة الثالثة لرفضها المتكرر للالتحاق بجيش الاحتلال ، قائلة أن ضميرها لا يسمح لها أن تمارس عمليات قمع و تنكيل بحق الفلسطينيين ، و أنها لا تريد أن تكون جنديا من أجل الاحتلال و الحرب ، و كانت قد كتبت رسالة سابقة أعلنت فيها رفضها للانخراط فى صفوف جيش الاحتلال لارتكابه جرائم فى حق الفلسطينيين ، كما رفضت فيها التصرفات العنصرية لذلك الجيش و نددت بتصرفاته القمعية قائلة ليس هناك قمع جيد و لا مبرر للعنصرية.
فتاة فى التاسعة عشر تحتج و تدخل السجن لثلاث مرات لأنها ترى ظلما و قسوة تنال الفلسطينيين ، لم تقف ساكتة أو عاجزة أمام صدفة ميلادها فى ذلك الكيان ، بل سعت إلى مقاومة ما يرتكبه فى حق الفلسطييين ، أما هؤلاء الذين لا يشعرون بوخز الضمير تجاه سكوتهم على بشاعات الاحتلال ، و يستقبلون من يساندون ذلك الكيان فى أفعاله ، فأين هم من الإنسانية و ما موقع الضمير لديهم ؟ أن فتاة فى التاسعة عشر فضحتهم و أظهرت عوراتهم النفسية و الفكرية.
و الحقيقة أن تلك الفتاة ليست الوحيدة فى إسرائيل التى تعترض على تصرفات جيش الاحتلال ، بل هناك كيانات مدنية إسرائيلية كثيرة ( منها حركة السلام الآن ) تعترض على الاحتلال و تنادى بحل الدولتين الذى يتلخص فى أن تعود إسرائيل إلى حدود ماقبل 1967 و تسمح للفلسطينيين بإقامة دولتهم على باقى المساحة من أرض فلسطين ، على أن تكون ( دولة منزوعة السلاح و تصبح القدس عاصمة مشتركة للدولتين ) ، و برغم صهيونية تلك الكيانات – أى أنها تقر بحق إسرائيل فى إقامة دولة على الأرض الفلسطينية – إلا أنها ترى أن للفلسطينيين حقوقا مشروعة ، و أن الكيان المحتل يعامل أصحاب الأرض بعنصرية بغيضة و أن جيش الاحتلال يقمعهم بقسوة و إفراط .
فهل التعامل مع تلك الكيانات يعتبر تطبيعا ؟
أقول بكل ضمير مستريح : نعم إنه تطبيع ، التعامل مع كل مغتصب لأرض و مازال مقيما على تلك الأرض يعتبر تطبيعا ، و إذا كنت ترى أن التعامل مع تلك الكيانات يخدم القضية الفلسطينية ، فدعنى أصارحك بأنك توهم نفسك ، فهؤلاء يطالبون بحقوق منقوصة للشعب الفلسطينى ، يطالبون بالحد الأدنى الذى يجعلهم هانئين بما اغتصبوه و يريحوا رؤوسهم من صداع اسمه الصراع العربى الإسرائيلى أو على حسب مقولة قياديين فى حركة السلام الآن : ( نحن نريد أن نوجه للمواطنين العرب رسالة الاندماج في دولة إسرائيل. ولكن إذا عوملوا بنوع من الريبة وقمعت مظاهراتهم بالعنف وواصلنا مصادرة أراضيهم، فحينئذ نكون قد ألقينا بهم في أحضان السلطة الفلسطينية ) . إذن الهدف فقط هو تدجين العرب الواقعين تحت الاحتلال من أجل الاندماج فى المجتمع الإسرائيلى : يتبنون أفكاره و يساهمون فى تنفيذ مخططاته .
و إذا كنت يا صديقى ( نمبر تو ) تسعى للسلام و تريد العمل مع منظمات أو كيانات يهودية من أجل السلام فدعنى أرشح لك من تتعامل معهم ، فهناك حركات تعتبر أن ارتباط إسرائيل بأرض الميعاد ارتباطا روحيا و يكفى إقامة مركز ثقافى لهم هناك و ليس بالضرورة احتلال الأرض و اغتصابها من أهلها . بل هناك من هم ضد إقامة الدولة الصهيونية مثل الحركة الدينية ناطورى كارتا ( حراس المدينة ) التى تنتشر فى أمريكا و بالذات فى حى ( بروكلين ) ، فهى من أشد الجماعات اليهودية عداوة للصهيونية وضد إقامة الدولة بل تدعو إلى إسقاطها ، فإقامة الدولة الصهيونية الآن تمثل التعجيل بالنهاية و من المفترض الانتظار حتى ظهور المسيح المخلص ( حسب الديانة اليهودية ) لإقامة تلك الدولة ، كما يرى البعض من تلك الحركات أن إقامة الدولة تتعارض مع صلب الديانة اليهودية حيث يخضع مواطنى هذه الدولة لقوانين علمانية قد تتعارض مع الشريعة اليهودية .
ذلك هو حال بعض طوائف الديانة اليهودية ، فلماذا نقبل نحن بتلك الدولة ؟