وحيد حامد.. فيلسوف المشهد والحوار
بقلم: محمود حسونة
الكتابة عن شخصية عظيمة، مهمة شديدة الصعوبة، تضعك في حالة من الحيرة بشأن ما يمكن قوله عن إنسان قال لنا كل شيء، وحالة من الخوف من أن تعجز كلماتك عن التعبير بشكل صحيح عن هذه الشخصية وعطائها وإبداعاتها ودورها التنويري، وصيحات التحذير التي أطلقتها في وجوهنا من أشخاص يعيشون بيننا ويستبيحون دماءنا ويريدون الخلاص منا والانفراد بالوطن لتقديمه عطية لأولياء نعمهم.
وحيد حامد، لا يكفي أن نصفه بالكاتب ولا بالسيناريست ولا بالمفكر ولا بالفيلسوف ولا بالمبدع ولا بعاشق تراب هذا الوطن، لأنه باختصار هو كل هؤلاء، وزد عليهم أنه إنسان معجون بطين هذه الأرض، ومهموم خائف على أبنائها وعلى مستقبلها، ومدرك لنقاط ضعفها ومواطن قوتها، ومتألم من جراحها ومطعون من أعدائها.. فلاح مصري فصيح اللسان عميق الرؤية مستشرف للمستقبل ومستوعب لدروس الماضي.
هذا كلام ليس من عندي، بل هو ما تقوله أفلامه وما نطقت به شخصيات أعماله وهي تعبر عنا بكل فئاتنا، بعضها يصرخ ألماً ويشكو ضعفاً، وبعضها يتجبر سلطة ويستشرس فساداً وإفساداً في الأرض. بعضها يحيي فينا قيمنا المفقودة، وبعضها يسعى لتدمير القليل الباقي من مبادئ أهل المحروسة، بعضها يفتح لنا خزائن التاريخ لنتعلم ونعرف الأخطاء التي وقع فيها السابقون عندما سمحوا لتجار الدين أن يعيشوا بيننا ويتمددوا على كل شبر، بل ويتجاوزوا حدود الدول والقارات ويعبروا البحار والمحيطات، لينشروا قيم التطرّف والعنف ويسيئوا إلينا وإلى ديننا دين التسامح، فيراه العالم دين إرهاب وسفك دماء.. هذا العبقري الناظر الى الحياة من جذورها، استشرف المستقبل وحذر من عواقب الإفساد والظلم والقهر للمواطن والبريء والمغلوب على أمره خشية تمرده وغضبه الذي لن يستطيع أحد مواجهته.
لم يكن مستغرباً أن يقف الفنانون والوزراء وجميع الحاضرين في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الأربعاء الماضي، تحية تقدير وإكبار عندما أطل وحيد حامد على المسرح للحصول على تكريمه بجائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر، وهم يصفقون مطولاً احتراماً ومحبة لملك الابداع السينمائي وسيد الدراما التليفزيونية وفيلسوف الحوار والمشهد ومطور الدراما الإذاعية ومعلم أجيال وأجيال فنون الإبداع في صياغة الكلمة ورسم الصورة؛ ولَم يكن مستغرباً أن نشاهد كبار وشباب نجوم مصر وهم يبكون تقديراً لعظمة هذا المبدع الذي نأمل أن يجود الزمان بمثله مرة أخرى، يسرا ولبلبة وليلى وإلهام ومنى زكي ومنة شلبي وأمينة خليل وساندرا نشأت وأحمد داوود ليسوا سوى نماذج ممن بكوا تقديراً للرجل الذي هزت كلماته الشاشات والعروش وكشفت المستور، كلمات صاغها ليعبر بها عن آمال وآلام شعب وهم الذين نطقوا بها وكانوا أداة توصيلها للرأي العام ومازالت محفوظة أملاً في أن تصل للأجيال المقبلة.
وبعد أن ألقى وحيد حامد كلمة الوفاء لمن تعلم منهم والعرفان للجمهور الذي رفعه على الأكتاف، تكرر مشهد الوقوف والتصفيق مع دموع الحب، مشهد لم يحدث من قبل لمبدع أو فنان في افتتاح مهرجان سينمائي، نذكر أنه فِي مهرجان كان السينمائي الدولي العام ١٩٩٧ وقف جميع الحاضرين تصفيقاً للراحل يوسف شاهين ولكن من دون بكاء وذلك خلال تكريمه بجائزة الانجاز العام عن مجموع أعماله.
وحيد حامد قال في كلمته خلال التكريم أنه أحب حياته وأحب النجوم الذين عمل معهم وأحب السينما، ولا شك أننا جميعاً أحببناه مبدعاً، ونجومه أحبوه لأن أعماله في سيرة كل منهم تتصدر قائمة الأفضل، ولأنهم وجدوا متعة وهم ينطقون كلماته التي عبرت عن شعب واخترقت مشاعره، والسينما أيضاً أحبته وتوجته ملكاً على عرش الكتابة لها.
حب السينما له لم يأت من فراغ ولكن وراءه سهر وتعب وبحث واستقصاء وجهد كبير، ضحى لأجلها وخاض معارك مع جهات متعددة حتى تصل رسالته، وعندما زيف سعيد مرزوق رسالته بالحذف والاضافة في فيلم “قصاقيص العشاق” لنبيلة عبيد رفض وضع اسمه على التتر، وحاول استغلال آخر حدود المسموح رقابياً حتى لو كلفه ذلك الكثير.
في فيلم “البريء” خاض معركة كبرى مع الرقابة ومع جهات سيادية حتى تم انتداب ٤ وزراء لمشاهدة الفيلم وإجازته، وخاض معارك في “الراقصة والسياسي” عندما قدمهما كوجهين لعملة واحدة وأكدت ذلك الراقصة عندما قالت للسياسي “أنا بلعب بوسطي وأنت بتلعب بلسانك”، وكذلك معاركه في أفلام “التخشيبة” و”الإرهاب والكباب” و”كشف المستور” و”اللعب مع الكبار”..إلخ. وكانت معاركه ليست فقط مع الرقابة ولكن أيضا مع من نصّبوا أنفسهم متحدثين باسم الله ومدافعين عن الدين، والله والدين منهم براء، ولا يمكن نسيان قضايا الحسبة التي رفعت ضده بسبب بعض أفلامه.
وحيد حامد وليس أحد سواه، حذرنا مبكراً من توغل الإرهاب، وقدم لنا أفضل الأعمال عنه مثل “الإرهاب والكباب” و “كشف المستور” و”دم الغزال” ومسلسلي “الجماعة” و”العائلة” ومسلسل “أوان الورد” الذي تناول قضية الانغلاق فيما يخص الاختلاف في الدين.
وحيد حامد داعية حرية، أجاد اللعب مع الكبار، وقدم الروائع التي ستظل السينما المصرية تتباهى بها وسيظل نجوم أعماله يعتزون بالعمل معه، وسيظل المثقفون والإعلاميون والكتاب يفخرون بأنه واحد منهم، و ظل طوال حياته القبلة التي يحج إليها محبوه من المثقفين والإعلاميين والفنانين ليتحول مجلسه اليومي في الفندق الشهير على النيل خلال بعض الأوقات إلى ملتقى العقول والمشاعر، ولتشهد ترابيزته بالفندق والتي لم تتبدل لسنوات طويلة مناقشات وحوارات وأفكار تطير في الهواء كما شهدت ميلاد أعظم أفلام السينما المصرية، وعليها كان يبدع ويكتب ويتأمل ويستقبل محبيه ويتناقش معهم ويراقب نماذج بشرية حوله ليحولها إلى شخصيات درامية أو سينمائية.
كاتبنا الكبير أعطى السينما والإبداع حياته فأعطياه التقدير وحب الناس واحترام الجميع بما في ذلك من يختلفون معه.
بكى الفنانون في افتتاح المهرجان حباً وتقديرا لرجل أبكانا وأضحكنا ومنحنا الأمل وزرع بداخلنا اليقين بأن هذا الوطن يستحق من كل من الإخلاص والعطاء والتضحية لأجله.
mahmoudhassouna2020@gmail. Com