لعبة العسكر والحرامية ما بين الحياة والدراما
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
شغلتني شخصية ضابط الشرطة في الدراما، فحينما كنا أطفالا كنا نرى أنفسنا في أمنياتنا ضباطا يقبضون على المجرمين، فيشتري لنا الآباء مسدسات لعبة نستخدمها في ألعابنا، وتتذكرون معي لعبة (عسكر وحرامية) ، وكيف كانت معاركنا في طفولتنا تدور حول أن كل واحد منا كان يبحث عن دور (العسكر) ويهرب من دور (الحرامية) إلى أن يستقر بنا الأمر فنتفق على تبديل الأدوار فيما بيننا، فتارة لصوص، وتارة بوليس، وإذا الحياة بعد ذلك عبارة عن لصوص وبوليس، عسكر وحرامية، وإذا باللعبة تصبح حقيقة، ثم تدور الأيام كما تدور بكرة الأفلام فيختلط علينا الأمر عندما نرى الحقيقة وقد أصبحت لعبة.
كان الشريط عندما تدور به بكرة الأفلام في سابق الأيام تتحرك من خلاله صور متتابعة على الشاشة، وكانت عيوننا تتسمر على الشاشة خوفا من أن يكشف اللصوص أمر ضابط البوليس الذي اندس بينهم ليكشفهم، كنا نخاف على محسن سرحان في فيلم (سمارة) عندما كاد زعيم العصابة أن يكشف أمره، وقد ترى أحدنا وهو يبكي عندما قٌتلت حبيبته سمارة، ولكننا كنا نعجب به وهو يحمل جثمانها بذراعيه المفتولتين وقوامه المنتصب، فتنطبع في أذهاننا صورة الضابط الشهم القوي الذي يمكن أن يضحي بحياته من أجل أن ينقذ بلده من اللصوص، أما عندما تحرك البوليس كله في فيلم (حياة أو موت) لينقذ المواطن المصري البسيط أحمد (إبراهيم) الساكن في دير النَّحاس، كنا نلهث مع حكمدار العاصمة يوسف وهبي، ونسمع النداء الذي قام بتوجيهه في الراديو: (من حكمدار بوليس العاصمة إلى أحمد إبراهيم القاطن فى دير النحاس، لا تشرب الدواء، الدواء فيه سم قاتل)، ونظل ندعو الله ونحن نسمع النداء ونتمنى أن ينتبه المواطن (أحمد إبراهيم) فلا يتناول الدواء الذي اشترته له ابنته، وابنته تقترب من البيت حاملة زجاجة الدواء، فنقول: (يارب ياخد باله) وتتعالى أنفاسنا رعبا مع اقترابها من البيت، إلى أن تصل زوجة المواطن أحمد إبراهيم قبل أن يتناول الدواء، ويدخل على أثرها حكمدار العاصمة بذات نفسه ليطمئن على أن المواطن نجا من الموت، فتنطبع في أذهاننا صورة ثابتة هى أن البوليس ينقذ أرواح المواطنين.
وفي غضون عام 1954 الذي أنقذ فيه حكمدار العاصمة حياة المواطن أحمد إبراهيم القاطن في دير النحاس، يدور الشريط فنرى الضابط أحمد يسري في فيلم (ريا وسكينة) وهو يتتبع تلك العصابة الخطيرة ليقبض عليها، ولأننا كنا نحب أنور وجدي لذلك اقتنعنا به جدا وهو يؤدي دور الضابط، وزاد حبنا له وهو يطارد أفراد العصابة، وخشينا عليه وعلى حبيبته من العصابة، وتقطعت أنفاسنا وهو يكيل لهم اللكمات، فيحيطون به ويضربونه، وهو يقاومهم بمفرده، وعندما يتم القبض على العصابة ويخرج الضابط احمد يسري منتصرا ويصفق الناس تحية له فنصفق معهم، فيستقر في ضمائرنا أن الضابط بطل، وأنه هو الذي يحفظ أمننا.
ونظل مع بكرة السينما وهى تدير الشريط فنرى أعظم ضباط الشرطة في فترة الستينيات، صلاح ذو الفقار، وقد كان في مقتبل حياته ضابطا شجاعا، وسنعرف من حياته الحقيقية أنه كان أحد الضباط الأبطال الذين واجهوا الجيش الإنجليزي في الخامس والعشرين من يناير عام 1952 في مدينة الاسماعيلية، وإذا بصلاح ذو الفقار يطل علينا عبر الشاشة من خلال دوره كضابط شرطة، ومن ذا الذي يستطيع أن يجاري صلاح ذو الفقار في هذا الدور؟ هو لم يكن يمثل على الإطلاق، ولكنه كان يؤدي دوره الحقيقي، كل ما في الأمر أنه كان يؤديه أمام الكاميرات، ولكننا عندما كنا نشاهده على الشاشة ننسى الكاميرات، ولا نرى إلا الضابط (كمال) في واحد من أعظم أفلام السينما المصرية (الرجل الثاني) ومعه في الفيلم عمالقة التمثيل، والوحش الأسطوري رشدي أباظة، يظهر الضابط كمال ـ صلاح ذو الفقار ـ متنكرا في شخصية شاب لبناني هو أكرم شقيق المغنية (لمياء) التي أدت دورها الفنانة صباح، ويندمج الضابط كمال مع العصابة، ويصبح واحدا منهم، لينتظر الفرصة المناسبة هو وفريق البوليس لكي يعرفوا شخصية زعيم تلك العصابة، إذ لم يكن عصمت كاظم (رشدي أباظة).
إلا الرجل الثاني فقط، ومن المصادفات الغريبة أن الفنان الراحل عبد الخالق صالح الذي أدى دور الرجل الأول، هو في لعبة الحياة من فريق العسكر الذي يقبضون على الحرامية، فقد كان ضابط بوليس وترك الشرطة وهو لواء، فيكون الضابطان في الحياة صلاح ذو الفقار وعبد الخالق صالح، أعداء في الفيلم! لأن أحدهما ضابط، والآخر زعيم عصابة، وقد أجادا في دوريهما بشكل منقطع النظير، وقد ارتجفت قلوبنا عندما عرف المجرم كاظم أن كمال هو أحد ضباط البوليس، فرتب أمر نقل المخدرات بطريقة أخرى، ونجح في تضليل البوليس، وتحدث مطاردات تلهث أنفاسنا معها وكأننا نحن الذين نجري، إلى أن يقبض الضابط كمال على الرجل الأول، فستظل صورة الضابط في أذهاننا عظيمة القدر، فهو البطل المقدام عندما يخاف الرجال، وهو الذي لا يخشى على روحه ولكنه يخشى على بلده.
وتظل صورة ضابط الشرطة براقة في عيوننا، ولكن يحدث شيءٌ ما في حياتنا، فالنظام في زمن الرئيس الراحل أنور السادات يريد أن يصنع لنفسه مكانة في عيون الشعب، ويبدو أننا لا نصنع مكانتنا إلا إذا قمنا بتحطيم الصورة الجميلة للزمن الذي يسبقنا، هل للجينات المصرية دخل في هذا الأمر؟! الله أعلم، ولكن أيا ما كان الأمر بدأت صورة الضابط تهتز في عيوننا قليلا مع فيلم الكرنك، وأصبحنا نخاف من الضابط كمال الشناوي (خالد صفوان) الذي يعذب الشاب البريء، ويأمر باغتصاب سعاد حسني، ونرى من قسوته ما تقشعر له الأبدان، فنكره البوليس السياسي ونلعن هذا الضابط، وقد لا يصدقني أحد عندما أقول لكم إننا كرهنا كمال الشناوي نفسه، ثم ندخل إلى فيلم (احنا بتوع الأوتوبيس) لنكره ضابط المخابرات في العهد الناصري الذي أدى دوره سعيد عبد الغني، بل وكل ضباط المخابرات.
ولكن تعود الدفة إلى مسارها المعتاد عندما نشاهد مسلسل (دموع في عيون وقحة) فالأحداث في هذا المسلسل تدور في فترة حكم عبد الناصر، وضابط المخابرات (صلاح قابيل) يستطيع تجنيد المواطن المصري الشريف جمعة الشوان ليعمل جاسوسا ضد إسرائيل، وصلاح قابيل هو صاحب الوجه المريح والأداء السلس، وهو من أحسن من أدى مثل تلك الأدوار، ويبرع عادل إمام في أداء شخصية الشوان، ونسترد ثقتنا مرة أخرى في ضباط المخابرات، وتزداد ثقتنا مع مسلسل (رأفت الهجان) والعبقري الذي لا يتكرر الضابط محسن ممتاز، الذي قام بدوره المبدع يوسف شعبان، ومعه فريق من الضباط كانوا أبطالا فوق العادة، لنعود مرة أخرى نتيه فخرا بضابط المخابرات، ولكن تحدث عدة تغيرات يجب أن نلمحها، والتغيرات تحدث بشكل مضطرد، لم يلحظها الواحد منا وقت حدوثها، حتى الذين شاركوا فيها لا يعلمون شيئا عن مآلاتها، فقد كان كل واحد منا عبارة عن بيدق في رقعة شطرنج.
وحينما تظن أنك كنت تُحرك نفسك فأرجوك أن تراجع نفسك، فأنت تحركت وفقا للمسار الذي تم رسمه لك ودفعك إليه دفعا، أنت ترى اللحظة الآنية، ولكنك لم تر اللحظة الآتية، ستظن أنك ثوري ترغب في القضاء على النظام الفاسد، ولكن انتظر فقد تم تجهيزك على مهل من خلال وسائل كثيرة، كانت الدراما من ضمنها، إذ لا أزعم أنها كانت الوسيلة الوحيدة. ففي نفس العام الذي شاهدنا فيه رأفت الهجان تدور بكرة السينما ليظهر لنا على الشاشة فيلم (زوجة رجل مهم) ولأن أحمد زكي الذي قام بدور ضابط أمن الدولة في هذا الفيلم، هو ممثل من أفضل الفنانين عبر تاريخنا الفني، لذلك اقتنعنا تمام الاقتناع من خلال أداءه أن ضابط أمن الدولة هو إنسان سادي مهووس، يسعى إلى إيذاء الناس، ليس عنده ضمير، فتم تصدير صورة ضابط أمن الدولة في عقولنا على أنه مثل زعماء عصابات المافيا.
وتدور بكرة السينما لنرى عام 2004 فيلم (تيتو) حيث نتعاطف فيه مع المجرم تيتو (أحمد السقا) الذي دفعته الظروف للإجرام، ثم إذا بالضابط (خالد صالح) يستغله ليرتكب جرائم على حسابه، ويظهر هذا الضابط وكأنه يدير مافيا من الشرطة، وفي نفس العام نرى فيلم (أبو علي) وهو فيلم لطيف كتب قصته بلال فضل الهارب حاليا في أمريكا، وأدى أبطاله أدوارهم ببراعة، ونجح فيه كريم عبد العزيز في أداء دور المواطن المصري الذي اتهمه الضابط ظلما ولفق له قضية، والضابط الفاسد هنا هو الممثل القدير (خالد الصاوي) ثم يتحرك الزمن ليأتي عام 2007 لنرى فيلم (هي فوضى) وهو فيلم يدور حول أمين شرطة فاسد، وقد أدى دوره ببراعة الراحل خالد صالح، والفيلم انتاج فرنسي ومصري مشترك، ونرى في هذا الفيلم منظومة كاملة من فساد الشرطة، سواء من حيث تزوير الانتخابات، أو تلفيق الاتهامات، والإتاوات، وغير ذلك، وفي نفس العام نرى فيلم الجزيرة الذي تدور قصته حول أن الشرطة تتعاون مع كبار تجار المخدرات لكي يمارسوا تجارتهم في مقابل أن يساعدهم هؤلاء التجار في أمور أخرى، إلى أن يستفحل الأمر فتضيق عليهم النطاق وتقبض على المجرم الكبير الذي أدى دوره أحمد السقا.
وفي عام 2010 نشاهد مسلسل الجماعة الذي كان جزءٌ كبير من حلقاته عبارة عن محاكمة درامية للشرطة المصرية. كانت هذه هي الخريطة التي تم رسمها ببراعة في أذهان الناس وقد تضافرت مع وسائل أخرى كثيرة، أكان الناس لعبة بين أيديهم يحركونهم كما يريدون؟! أم انهم استخدموا فنون توجيه العقل الجمعي فيما يعرف بالبرمجة الذهنية؟ أكانت حركات وجمعيات ودراما تستغل معاناة الجماهير لتحريكهم ثم لتثويرهم من أجل التخلص من عجائز تيبسوا على كراسي الحكم ليُجلسوا على كرسي الحكم أصحاب اللحى الذين لا تهمهم الأوطان، ولا ينتمون للأرض؟ هذا موضوع يحتاج إلى كتاب كامل إذ لا تكفيه مقالة أو عدة مقالات.