صباح … ضحكة ورائها مأساة !
* ذهبت لأحدى الكنائس اللبنانية وهى طفلة ودعت أن تصبح مطربة
* الرئيس رياض الصلح يطبع قبلةعلى جبينها ويثني على صوتها
* فريد الأطرش يكتب شهادة وفاتها في بداية مشوارها الفني
* كنعان الخطيب مديرإذاعة (صوت أمريكا ) يساندها ويعلمها اللغة الإنجليزية
* شقيقها يقتل أمها فى لبنان وهى تمثل في ستديوالأهرام (قلبي وسيفي)
* رصيدها 1500 أغنية و80 فيلما سينمائيا و20 مسرحية
كتب : أحمد السماحي
تركت الشحرورة صباح إرثا فنيا كان وسيبقى لوجه لبنان الجميل، ومرآة إبداع هذا الوطن، أخذت معها دفء الذكريات ومحبة ملايين العرب، لكن الأساطيرلاتموت أوترحل عن عالمنا، وتبقى خالدة بإبداعها الفني خلود نهر النيل والأهرامات، وحتما ومهما مرت السنوات على الرحيل ستبقى (صباح) ساكنة وجدان العرب لأجيال وأجيال قادمة.
مشوارطويل
على مدى مشوارها تركت لنا ثروة من الإبداع، تتمثل في 80 فيلما سينمائيا، و20 مسرحية غنائية، وأكثر من 1500 أغنية، تعاونت فيها مع كل أساطين النغم في مصر والعالم العربي، والوحيد الذى لم تغن له هو الشيخ سيد درويش.
في ليل العاشر من نوفمبرعام 1927 أبصرت (جانيت فغالي) النور في بلدة (بدادون) بلبنان، وهى المولودة الثالثة في أسرة (جرجي فغالي) بعد (جولييت ولمياء)، لذلك لم تستطع الأم (منيرة سمعان) أن تقاوم دموعها عندماعلمت إنها وضعت بنتا، لأن الأسرة كانت تريد صبيا، لم يكن مولد (جانيت) يوما سعيدا، ولم تنطلق الزغاريد ولم تقرع الطبول، بل سيطر الحزن العميق على البيت، لكن بمرورالأيام والسنون، ومع مولد شقيقها (أنطوان) بدأ الجميع يدلل (جانيت) التى بدأت تشعر بحنان الأمومة فى أروع صورة، عندما صارت تعي الحياة وتدرك الأمور ومعاني الأشياء، وعشقت والداتها حيث كانت سيدة خفيفة الظل، مرحة، وتعشق الفن، حتى إنها كانت تحضر إلى المنزل أحد عازفي العود لكي يعزف أمام العائلة، مماجعل مواهب (جانيت) الفنية تتفتح وتتجه منذ طفولتها صوب الغناء.
شحرورالوادي
كانت الحياة فى العائلة هادئة، فالأم تغدق عليها العطف والحنان بلاحساب، والوالد يهتم بعمله في تجارة الأقمشة، غيرأن هذا الهدوء هزه مقتل الإبنة البكر (جولييت) فى حادث إطلاق رصاص وقع في القرية، وكان سببا لمغادرة (جانيت) بلدتها إلى بيروت والالتحاق بالمدرسة الرسمية أولا ، ثم بالمدرسة اليسوعية نزولا عند رغبة عمها الشاعر (شحرورالوادي) الذى لعب دورا هاما فى هذه الفترة من حياة صباح، فهو الذى عودها على قراءة الشعر لاسيما قراءة أشعاره وزجلياتها التى كان ينظمها باللهجة اللبنانية، وقد لاحظ أنها تبكي من شدة التأثر عندما تقرأ هذه الأشعار، أوعندما تغنيها بطريقة مؤثرة، فتنبأ لها بمستقبل باهر في الغناء.
أمنية جانيت
وفى هذه الفترة ذهبت (جانيت) وهى طفلة مع عائلتها إلى بلدة (جلال ديب) لزيارة إحدى العائلات الصديقة، وقالت لهم صاحبة البيت : بالقرب من منزلنا كنيسة كل من يدخلها للمرة الأولى ويطلب أمنية معينة تتحقق له) بهرت (جانيت) بكلام صاحبة البيت، وشغلها جدا، وأصبح كل همها أن تختصر إجراءات الزيارة وتقاليدها لتذهب إلى الكنيسة لتطلب أمنيتها الأولى، وانتهزت فرصة انشغال الجميع بتناول الطعام، فتسللت بهدوء وحذر شديدين دون أن يشعر بها أحد ودخلت الكنيسة، وبكت وهى تصلي طالبة تحقيق أمنيتها الوحيدة وأن تصبح مطربة ناجحة ومعروفة.
الأميرة هند
وفي هذه الفترة من ثلاثينات القرن الماضي كان العمل في الفن عيبا وكانت كل الأسر ترفض عمل أبناءهم فى هذا المجال، خاصة أسرة (جانيت) التى كانت تعتبر أن احتراف الغناء عيبا، لأن جدها كبير الأسرة كان كاهنا هو (الخوري لويس الفغالي)، وخال أمها كان المطران (عقل)، لكن يبدو أن الظروف كانت تتحرك وتعمل لصالحها، ففى هذه الفترة تميزت (جانيت) بالشقاوة والمرح، فلم تكن تكف عن مشاغبة الصبيان والفتيات، وبلغ من شقاوتها إنها كانت تقلد حركات المدرسات، حتى ضبطتها ناظرة المدرسة وهى تقلدها فلم تغضب بل ابتسمت لأنها رأت فيها مواهب فى التمثيل، وأخذت تشركها في حفلات المدرسة، وفى إحدى الأعوام قررت المدرسة التى تدرس فيها تقديم مسرحية اسمها (الأميرة هند) ورشحت الراهبة المسؤولة عنها (جانيت)، وكانت تلميذة محبوبة فى الثانية عشر من عمرها، ومقربة من الراهبات وتغنى لهن من حين لآخر فيطربهن صوتها، ومما ضاعف من ثقتها بنفسها أن بعض الذين حضروا بروفات المسرحية الغنائية، ومن بينهم ممثل لبناني قديم يدعى (عيسى النحاس)، ذلك الممثل المسرحي القديم الذى اعتزل التمثيل بسبب كبر سنه، ثم أصبح بعد ذلك يعتمد على تأجير الملابس المسرحية، وأعجب النحاس بالصبية (جانيت) وأطلق عليها لقب (الشحرورة) نسبة إلى عمها (شحرورالوادي).
ويوم عرض المسرحية وبعد انتهاء العرض ذهب إلى والدها وقال له: (حرام عليك تجعلها تغني فقط على مسرح المدرسة، يجب أن تعمل وتغني فى أماكن أخرى)، وغضب الوالد غضبا شديدا، لقد تقبل فكرة اشتراك ابنته فى الحفلات المدرسية، لكنه لن يسمح بتكرار ذلك فى أماكن آخرى.
الرئيس رياض الصلح
بعد نجاح (جانيت) فى حفل المدرسة جاءتها فرصة أخرى للغناء فى حفل بمقر نقابة الصحافيين، وحاولت أمها المستحيل لتقنع الوالد وبقية الرافضين فى الأسرة، وبعد أيام وافق الأب بعد أن علم أن الحفل سيحضره الرئيس (رياض الصلح)، وكان يومها رئيس الوزراء ومجموعة كبيرة من الصحافيين والأدباء وبعد انتهاء الحفل وبينما كانت تمر من كواليس المسرح مرت بالمقصورة التى يجلس فيها (الصلح) فاستوقفها وطبع قبلة أبوية على خدها وقال لها (أحسنتي ياعروس).
الخطيب يتعهدها بالتدريب
سعدت جدا (جانيت) بهذا الثناء وبالنجاح الذى حققته، وفى هذا الحفل كان من ضمن الحضور كنعان الخطيب (مديرإذاعة صوت أمريكا) الذى أعجب بصوتها جدا، وطلب من والداها أن يرعاها لأنها خامة جيدة، وبعد الحفل بدأ (الخطيب) يتردد على منزل(جانيت)، وشجعها ولعب دورا فعالا ومؤثرا فى هذه الفترة من حياتها، وشجعها على إجادة اللغة الإنجليزية، وعلى قراءة الشعر أيضا، ويكفي إنه ساهم فى إقناع أهلها بالتخلي عن تشددهم الزائد عن الحد، وفى هذه الفترة تقدمت لامتحان الإذاعة اللبنانية، وقالت اللجنة التى كان من بين أعضائها (محيي الدين سلام) والد المطربة (نجاح سلام) لا تصلح للغناء ويمكنها أن تتقدم مرة أخرى عندما تكبر.
فريد يكتب شهادة وفاتها
بعد مرور أكثر من عامين وقفت (جانيت) مرة أخرى أمام لجنة الاستماع فى الإذاعة ونجحت، لكن اللجنة كانت تود أن تسمع رأي مطرب وملحن كبير ومعروف يفهم ويميز طبيعة الأصوات ومزاياها وعيوبها، وكان هذا هو الملحن (فريد الأطرش)، ولم تنم الفتاة الصغيرة فى تلك الليلة حيث كانت تشعر بنوع من الزهو الخفي، لأنها ستقابل فنان كبير مثل (فريد الأطرش) الذى كان حلم الفتيات، وفي الصباح الباكر كانت تقف أمام مبنى الإذاعة، وبعد ساعات حضر (الأطرش)، وطلب أن يسمع صوت البنت الجديدة، فغنت وعيناها لاتفارقان وجهه الذى لم تظهر عليه أي علامات ارتياح، وبعد أن انتهت من الغناء تطلع الجميع إلى فريد الأطرش الذى أطرق قليلا وقال بصراحة: لا تصلح للغناء أبدا، ويجب أن تعود إلى مدرستها وتواصل دراستها وتنسى حكاية الغناء هذه.
وانهارت آمال الشحرورة، لكنها أصرت على الاستمرار وعلى تحقيق حلمها، وبدأت تتدرب أكثر على الغناء، وتسمع كل ما يقع تحت يدها من أسطوانات سواء عربية أو أجنبية، وتواصل عملها فى الغناء فى الإذاعة أوفى بعض الحفلات العائلية.
آسيا داغر، وأغنيات مجهولة
بدأ اسم الشحرورة يتلألأ، وبدأت الطلبات تتوالى عليها من كل حدب وصوب، وتلقفها الملحن اللبناني (يوسف فاضل) ولحن لها أول أغنية خاصة بها فى مشوارها وهى أغنية (خدني معك)، ونجحت الأغنية بقوة، وتوالت الأغنيات التى كانت تنطلق من الإذاعة كان منه (طلع لينا، يالابسة التوب المخملي، مابعرف كيف قلبي عطيتك، مقدر من الله، ياويل القلب)، في هذه الفترة كانت المطربة (نور الهدى) تحقق نجاحا كبيرا في القاهرة بعد أن أخذها فنان الشعب (يوسف وهبي) من لبنان لتقوم ببطولة فيلمه (جوهرة)، وانتشرت فى بيروت كلها قصة النجاح والثروة التى تدفقت على نجمة الغناء اللبنانية.
وبعثت (نور الهدى) الأمل فى نفس كل فتاة لبنانية، وألهبت خيالهن بأحلام المجد والشهرة، وفى تلك الفترة، أي عام 1943 كانت تجارة (جورجي فغالي) قد كسدت، ومرت الأسرة بأزمات كثيرة، ولكنها اجتازتها بسلام بفضل ما كانت تربحه (جانيت)، ولعبت الصدفة دورها مع المطربة الشابة، حيث كانت المنتجة والفنانة اللبنانية (آسيا داغر) تبحث عن وجوه جديدة، وطلبت من أحد موزعي أفلامها في بيروت وهو السيد (قيصريونس) زوج شقيقتها البحث عن وجوه جديدة تصلح للسينما، فأرسل لها مجموعة من الصور من بينهم صورة (جانيت)، وتوقفت (آسيا) كثيراعند وجه (جانيت) التى كانت تعلقت بالسينما المصرية وأخذت الآمال تداعب خيالها بأن ترى صورتها على الشاشة الفضية، وتصبح مغنية مثل مطربتها المفضلة (ليلى مراد) وتمثل أدوارالبطولة أمام (محمدعبدالوهاب، وأنوروجدي، وحسين صدقي، ويوسف وهبي).
وعندما علمت أن (قيصريونس) أرسل صورتها إلى (آسيا) راحت تتوسل إلى القديسة (تريزا) أن تكون نصيرتها عند السيدة (آسيا)، وبالفعل تحقق لها ماحلمت به وجاءت السيدة (آسيا) إلى لبنان لتمضية فترة الصيف، وهناك رأت صاحبة الوجه الجديد، واكتشفت أن الأصل أفضل من الصورة، كما أعجبت بصوتها الذى يفيض بالمرح وخفة الظل، فوقعت معها عقد بطولة فيلمين مرة واحدة، فى مقابل مائة وخمسين جنية عن كل فيلم.
القلب له واحد
لم يصدق والدها تاجر القماش نفسه وهو يوقع العقد بهذا المبلغ الضخم الذى هبط عليه فجأة، فأغلق متجره ونزل مع ابنته إلى مصر، تاركا زوجته وأولاده، وفى مصر جندت لها (آسيا) الكفاءات الفنية لإظهارها فى الفيلم فأسندت بطولة فيلم (القلب له واحد) لنجم النجوم (أنور وجدي، وسليمان نجيب، وميمي شكيب، وفردوس محمد، وإسماعيل ياسين)، وعهدت إلى الأغنيات لشعراء مهمين مثل (بيرم التونسي، ومأمون الشناوي، وصالح جودت، وبديع خيري)، ولحن الأغنيات (زكريا أحمد ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي)، واستقرالرأي بين (آسيا) ومخرج الفيلم (بركات) والشاعر(صالح جودت) على تغييراسم (جانيت) وبعد استعراضهم لمجموعة من الأسماء استقرالرأي على تسميتها (صباح) لأن وجهها كان يومئذ مشرقا كنور الصباح.
وعرض فيلم (القلب له واحد) وحقق نجاحا كبيرا، وطار صيت (صباح) على جناح الريح، ونفس الأمر حدث مع فيلمها الثاني (هذا جناه أبي) وأصبحت أغانيها المرحة الساذجة فى هذا الفيلم على كل الأفواه، واشتهرت لها أغنية فى الفيلم بعنوان (بعدين معاك) التي لحنها الموسيقار (محمودالشريف)، ويقول مطلعها “:
دي سكتي ودى سكتك
خايفة أروح في سكتك
بعدين معاك.
ولحن لها(فريد غصن) في نفس الفيلم (ايه معنى الحب، ايه شكل الحب، ايه طعم الحب).
مأساة حياتها
توالت نجاحات (شمس الشموس) ووصل أجرها إلى حوالي ثلاثة ألف جنية نظير بطولتها للفيلم الواحد، وفى هذه الفترة تعرفت على زوجها الأول (نجيب الشماش) والد ابنها (صباح)، وسعدت الفنانة الشابة بزواجها فى البداية، وارتفع أجرها من ثلاثة آلاف إلى سبعة آلاف جنيه، وتقاضت في فيلم (لبناني فى الجامعة) ثمانية آلاف جنية، وفى عز تألقها هذا وفجأة وعلى غيرموعد وقعت فى حياتها أعنف مأساة، يمكن أن تقع فى حياة نجمة ساطعة تسلط عليها الأضواء فى كل مكان، وتترقب الصحافة أي خبر عنها لتذيعه، مأساة مروعة زلزلت حياتها وكيانها، وملأت حياتها السعيدة الهانئة بالألم والدموع، وأي مأساة أعنف من أن تختارها الأقدار لتكون أختا لأوديب الذى قتل أمه، ليس فى أسطورة (سوفوكليس) فقط، وإنما فى حياتها الواقعية، فقد جسد شقيقها (أنطوان فغالي) ابن السابعة عشرة، والأخ الوحيد لأربع أخوات ذلك الدور التراجيدي العنيف فى الحياة، وقتل أمه بالرصاص مع شخص اسمه (خضرعيتاني) قيل أنه كان عشيقها!
ونشرت الصحف اللبنانية الحادث وتنقالته الصحف المصرية التى أبرزته فى صدر صفحاتها الأولى وكانت العناوين كالتالي: (شقيق صباح يقتل أمه وعشيقها بالرصاص)، وأخفى (نجيب الشماس) عنها الخبر، ومنع دخول الجرائد إلى منزلهما أوفى ستديو الأهرام حيث كانت تمثل فيلم (قلبي وسيفي) عام 1947، لكن هذا الحادث كان يتمثل لصباح في يقظتها ومنامها، فكان تتقوم من النوم فزعة، وعندما يسألها زوجها عما بها فى كل مرة، فكانت تقول له إنها رأت حلم فظيع حيث رأت أمها ميتة وغارقة فى الدم، وشقيقها أنطوان يغسل يديه فى دم أمها، فكان يسمع هذا منها ويطيب خاطرها ببضع كلمات ويقول لها إنها أحلام!
لكنها بعد شهرين من الحادث طلبت أن تزور أمها في بيروت وعندما اقتربت الباخرة من بيروت اضطر (الشماس) أن يصارح زوجته بالحقيقة، وهنا غابت عن الوعي، وسقطت مغشيا عليها، وشعرت إنها أتعس مخلوقة في الدنيا، خاصة أن والدتها هى التى كانت تعطف عليها وشجعتها كثيرا على العمل الفني، ولم يبرح هذا الحادث خيالها لسنوات طويلة جدا، فعلى الرغم من إنها لم تراه فى الحياة إلا إنه تجسم لها فى المنام، وجعل حياتها كلها جحيما لايطاق.
ورغم هذه المأساة استطاعت صباح أن تجتازها وتسعدنا بطلتها الحلوة وأغنياتها الرائعة وأفلامها الاجتماعية المتميزة، ونجحت على مدى مشوارها فى الاحتفاظ بكبرياء الفنانة، فظلت صورتها جميلة فى الذاكرة ونجحت في أن تمنحنا البهجة عبر أعمالها الفنية.