فردوس محمد .. أم السينما المثالية
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
أعظم شخصية يمكن أن تشاهدها في الدراما وتتفاعل معها وتعجب بها هى شخصية الأم، ولا أظن أن كتاب الدراما كانوا يجدون مشقة في رسم تلك الشخصية، فأمهاتنا يعشن معنا وفي قلوبنا، يؤثرون فينا ويسعدوننا، حينما كنا صغارا كنا نرتمي في أحضانهن، فحضن الأم هو الملاذ والملجأ والحماية، ونظل نرتمي في أحضانهن ونحن كبار، فإذا جاء الموت الذي ليس منه بد، وانتقلت الأمهات إلى القبور افتقدناهن، وأخذنا نستحضرهن في أخيلتنا، وحينما نَرَاهُن في الأحلام نفرح ونحكي تلك الرؤى للأهل والأصدقاء ونحن مستبشرين، أو نسرع للتبرع بالصدقات للفقراء لكي يصل الثواب إليهن، أو يَختم المسلم القرآن ويهب ثوابه لأمه، والقرآن حياة للقلوب، و ينير المسيحي شمعات في الكنيسة رحمة ونور على أمه، والشمعة مثل الأم، تحترق وتذوب لكي تعطي نورا للآخرين.
الآن أقول لك خفف عن نفسك أيها الإنسان فأنت لا تعلم أن أمهاتن اللائي فارقن الحياة لا يحتجن إلى هذا الثواب، بل نحن الذين في أشد الحاجة إليه، هن يأتين لنا في المنام حتى نُصلح أنفسنا في الحياة، فتُهيئ لنا نفوسنا أنهن في حاجة إلى أن نمد لهن أيادينا بالخير، فاخرج يا رجل من غرورك، فأمك هى التي تمد لك يدها بالخير حتى وهى في قبرها .. هذه هي الأم، وسنعجز عن الكلام عنها وعن تأثيرها في حياتنا، ولكن كيف رسمت الدراما صورتها؟.
معظم الأمهات في السينما والتلفزيون هنَّ من الطيبات الصالحات، وقد اشتهر بالقيام بدور الأم مجموعة من الفنانات لم تنجب السينما مثلهن أبدا، فيا لطيبة فردوس محمد، وعزيزة حلمي، وأمينة رزق، وآمال زايد، ثم كريمة مختار وهدى سلطان، ولا ننسى شادية وهى تؤدي دور الأم حينما كانت شابة، ثم برعت في هذا الدور وهي كبيرة .. أنت وأنا سنرى أمنا الطيبة في (فردوس محمد)، فتلك الفنانة التي يقال إنها لم تنجب أصلا، ولم تمارس الأمومة في الحقيقة، مارستها في السينما، فكانت هى الأم الطيبة المفرطة في الحنان لابنها الحالم الرومانسي علي، (علي يا ويكا) الذي أصبح ضابطا في الجيش، وابنها الآخر حسين الذي تقفز الشقاوة من عينيه وقد أصبح ضابطا في البوليس، وسترى فرحة الأم في نظرة فردوس محمد لابنها علي بعد أن عاد إليها متخرجا من كليته الحربية، فهي تشب لتقبله على وجنتيه وتحتضنه بعفوية الأم، ثم تتذكر الأيام الخوالي عندما كان ابنها هذا صغيرا لا يكاد يقف، فكانت تحمله بذراعيها وتضمه في حضنها، الآن كبر الطفل، وأصبح رجلا فارع الطول، فتقول له فردوس محمد بصوت يخلط بين الفرحة والفخر، فيخرج وفيه رنة ملحوظة لأن بكاء السعادة أعطاه رونقا خاصا: (كبرت يا علي وما بقتش طايلة أبوسك، إلهي يجعلك عالي دايما).
وقد نجحت فردوس محمد في جملتها هذه أن تجمع فيها كل مشاعر الأمومة، فالجملة يكتبها المؤلف، ولكن ينطقها الفنان، وليس نطقا كل نطق. . وقد كان صوت فردوس محمد هو الترجمة الحقيقية لقدراتها الفنية العالية، فعندما قامت بدور أم عبد الحليم حافظ في فيلم (حكاية حب) فكانت هي الأم الضريرة التي يخفق قلبها بالخوف على ابنها الذي كان على وشك السفر للعلاج في الخارج، وقد أخفى عليها خبر مرضه، فيجلس على مسند الكرسي التي تجلس هي عليه، ويودعها، فيختنق صوتها بالدموع، وأحسب أنه اختنق فعلا لا تمثيلا، فقد كانت صادقة كأروع ما يكون الصدق، وحينما أرادت أن تطمئن على ابنها وهى تقول له: (دي أول مرة تسافر وتسيبني)، ثم تتحسس ملابسه فتجد قميصه خفيفا، وهو الذي سيسافر إلى أوروبا الباردة، فلا تنسى أن تسأله: (أخدت معاك هدوم تقيلة؟)، كان يمكن أن تسأله دون أن تتحسس ملابسه، ولكن المشهد لم يكن سيكتمل حينئذ، فهي تحسسته لتسأله، لنستشعر من تلك اللمسة أن هذا الخاطر داهمها قبل أن تلمس ملابسه، ثم يشدها الحنين إليه وهو الذي سيفارقها حالا فترجوه أن يجلس بجوارها قليلا لتستزيد منه، إلى أن تقول له :بحفظ الله يا حبيبي”، وحينما يستدير تناديه بصوت مرتفع فيه لهفة وشوق للمسافر الذي لم يغادرها بعد : (أحمد) ثم تدعو الله ليحفظه.
قد كانت نداءها له هو أعظم نداء في تاريخ السينما، فقد كان مشحونا بعاطفة غريبة لا يستطيع الجماد أن يظل جمادا على حاله وهو يسمعه، بل اظنه سيتفتت، وتسمع الأم بعد ذلك من الراديو أن ابنها يجري عملية في الخارج، والمذيع يدعو له، وهى الأم العاجزة الضريرة التي لا تملك من أمرها شيئا، يا لعظمتك يا أم السينما المصرية، فقد كانت فردوس محمد هى أمي فعلا، وكانت هى الصورة الحية لكل أم طيبة في الحياة، فإذا بكوب الشاى الذى تشربه يرتجف في يديها ويكاد يقع، وكأن هذا الارتجاف كان ترجمة للرجفة التي أصابت قلبها، ثم لم تجد شيئا تفعله إلا أن صاحت: (إبني) وكانت كلمة إبني هنا تحمل كل مشاعر الأمومة والرجاء.
ولو تركت نفسي لأكتب عن أمومة (فردوس محمد) لاحتاج الأمر مني إلى كتاب كامل، فهى الأم التلقائية الطيبة المفرطة في الحنان، فهي (ستيتة) أم شكري سرحان في (شباب امرأة)، ورأيناها وهي تسحب (جاموستها) لتبيعها لكي توفر لابنها نفقات التعليم في القاهرة، والجاموسة هى كل الذي تمتلكه، ولو تعلمون قيمة تلك البهمية عند الفلاح في تلك الفترة، كانت هي مورد رزقه، والأم التي تحب أن ترى ابنها في أعلى مقام تبيع مورد رزقها، ولو رأيت حركة (فردوس محمد) المتخاذلة وهى تسحب الجاموسة ثم تسلمها للمشتري، ثم تودعها وتربت على ظهرها، لأيقنت أنها فلاحة ابنة فلاح عاشت سنوات البؤس في الريف، رغم أنها في الحقيقة ابنة المدينة التي نشأت في حي المغربلين، ثم تلك العظمة الأمومية التي قدمتها تلك الأم العجيبة في مشهدها وهي تودع ابنها وتقول له: (لو لقيت حد يشتري روحي كنت أبيعها واديها لك يا إمام).
وأرجوك لا تقف عند حد تلك الجملة، ولكن اسمع السعادة الكبيرة التي كانت في صوت الأم (ستيتة) وهى تقول تلك الجملة، لتعرف أنها قالتها بهذه السعادة وهى تخفي أساها، لتخفف عن ابنها حزنه لبيع الجاموسة مصدر رزقهم، وما كانت أم من أمهات الدراما لتستطيع أن تجاري (فردوس محمد) في تلك العظمة وهذا الإبداع.
ونذهب إلى أمنا الأخرى (أمينة رزق)، تلك الأم التي ظهرت دائما أو في الغالب الأعم بصورة الأم المكافحة، التي تنكر ذاتها من أجل أبنائها، هي الأم المظلومة دائما، المغلوبة على أمرها، قليلة الحيلة، التي تعاني دائما من شظف العيش، هي أم آمنة وهنادي في دعاء الكروان، هى التي تقبل الظلم ولا تستطيع أن تقاومه، فهي في قمة الضعف أمام شقيقها، تخفي حزنها كله في قلبها عندما يقتل الخال ابنتها لأن المهندس الذي تعمل عنده أغواها للخطيئة، وعندما تسألها آمنة: فين هنادي يا اماي، ترد وهى مخزية: (هذا أمر الله يا بنيتي)، وعندما دعت ابنتها عليها لم تعر الأم جوابا ونكست رأسها.
نذهب الآن إلى الطيبة عندما تختلط بالسذاجة، تلك المعادلة نراها وقد تجسدت في صورة الفنانة (آمال زايد)، التي كانت في فيلم (بين القصرين) زوجة السيد احمد عبد الجواد، وأم أولاده، إنها الأم الطيبة التي لا تستطيع أن تتحرك في حياتها إلا بأمر زوجها، وهذا من أنماط الأمهات القديمات، ولأن الكاتب هو نجيب محفوظ، والمخرج هو حسن الإمام، لذلك كانت (آمال زايد) هى الأبرع في أداء دور الأم الطيبة الساذجة المكسورة الخائفة التي يصيبها الرعب من زوجها المستبد صاحب الجبروت.
ولكن (عزيزة حلمي) هى الأم الطيبة، وقد ساعدها على ذلك ملامح الطيبة المحفورة حفرا في وجهها، وكأن الله خلقها لتكون طيبة، رأيناها أما طيبة كثيرا، ثم رأيناها أما حزينة منكسرة في مسلسل (دموع في عيون وقحة) وهي تغادر بيتها لتكون من المهجرين، وتقول لابنها جمعة: خلاص هانسيب بيتنا يا جمعة، فقد كانت لا تعرف من دنياها إلا بيتها، وسمعنا صوت (عزيزة حلمي) عبر الإذاعة في مسلسل (عائلة مرزوق أفندي) الذي كان يأتي من ضمن فقرات برنامج (ربات البيوت) صباح كل يوم، وكانت تمثل أيضا دور الأم الطيبة التي تجمع الأبناء وتساعدهم في حل مشاكلهم.
كلهن كن رائعات، ولكن (فردوس محمد) كانت هى الأروع والأبدع، فهي أم أمهات السينما المصرية وأستاذتهن جميعا.
مقال اكثر من رائع
مقال اكثر من رائع ، برافو