تحت الجميزة
بقلم : محمد شمروخ
عندما اختار الصديق الشاعر والملحن (ناصر النوبي) اسم جميزة لفرقته الغنائية كان يدرك جيدا أن تلك الشجرة على وشك الانقراض وأن العقود السابقة من السنين بين القرنين العشرين والواحد والعشرين شهدت مذابح عمدية لما تبقى من أشجار الجميز في بر مصر المحروسة.
لكن (النوبي) اختار الطريق الصعب وأول دلالات الصعوبة هو اسم شجرة دالة على الأصالة بل وارتبطت بتاريخ مصر الممتد في الزمان كامتداد جذور شجرة الجميز وليس التاريخ فقط بل الجغرافيا أيضا.. فليس ثمة شجرة انتشرت في بر مصر في ماضيها بعراقة شجرة الجميز والتى كان لها ارتباط سحرى بماضي مصر القديمة حتى سميت حتحتور – وهى أشهر ربات المصريين القدماء – بأنها (سيدة شجرة الجميز الجنوبية) وحتى وقت قريب كان الفلاحون المصريون أن كل جميزة يسكن فروعها السامقة والمتشابكة (مارد)، وفيما يبدو أن النوبي أراد أن يحضر لنا هذا المارد من فوق أشجار الجميز من أقصى جنوب مصر حيث النوبة وحلايب وشلاتين وبرنيس، ثم يمر على صعيد مصر ويخترق الدلتا ليصل إلى أقصى الشمال في بور سعيد والإسكندرية ويجول مصر من رفح شرقا إلى السلوم غربا ويهبط على سيوة والفرافرة وبقية واحات الصحراء.
لا ليجمع ثمار الجميز ولكن ليجمع التراث الموسيقى في الأغانى شديدة المحلية ويعيد تفصيلها من جديد ليعيد روحها في ألحانه لتشدو بها زوجته ورفيقة رحلته الجميزية “يم سويلم” في العامة من كلمته وألحانه، ويم ذات صوت (صبحاوي) مشرب بخليط من مياه النيل وعيون الواحات وآبار الصحراء له لثغة خفيفة من من ملوحة البحرين الأحمر والمتوسط، وصوت يم والتى تعنى البحر يبدأ صحراويا ثم يعرج إلى الريف وينتهى بالساحل.
عرف ناصر في كلماته وألحانه كيف يستثمر صوت رفيقة رحلة عمره الصابرة معه على المشوار الطويل، وخلال الأسبوع الماضي لبيت دعوة لحفل لفرقة جميزة البسيطة والمكونة فقط منه هو وزوجته مع عازف ربابة ومزمار وضابط إيقاع وكان ناصر يشترك فرقته بالعزف على “جيتار” فالتفت أنغام الربابة مع الربابة والمزمار في خليط لا يقل عجبا عن الخليط المنطلق من حنجرة (يم).
كان بالطبع الجمهور الذي حضر الحفل البسيط جمهورا قليل العدد لم تكن به الساحة الصغيرة في أتيليه القاهرة، وراودني سؤال في أثناء الاستماع إلى الأغانى: ماذا لو كتب ناصر أغنية تحوى ألفاظاً نابية أو حتى شبه نابية ثم تم بثها على الإننرنت؟!
أنت لم تسمع عن هذه الفرقة من قبل ولكنك ستمع عنها وتساهم في التريند لو فعل ناصر ما تخيلته على سبيل العبث، ثم ماذا لو قدم أغاني كاغانى المهرجانات التى لا تميز فيها كلمات ولا موسيقى؟.. حتما سيكسب كثيرا .. مال .. شهرة.. حضور للمناكفة في برنامج التاسعة مع الاستاذ وائل.. صرخة غاضبة في البرية من عمنا الكبير الرائع حلمي بكر.
ولن يكف هاتف النوبي عن رنين وزن للصبح من المنتجين ووكلاء الفنانين ومعدى البرامج الليلية .. كل هذا ويزيد ستلقاه (فرقة جميزة) التى لامحالة ستبلغ العنان لتعلو على كل الأشجار، ولكن كما قلت سابقا: (ناصر ويم اختارا الطريق الصعب).
ناصر كلف نفسه بالبحث عن التراث الموسيقى المصرى وهو أصعب ما يكون في تتبع الفنون الشعبية، خاصة أنه لا يقتصر على كلمات الأغانى المكتوبة فقط بل لابد من معرفة قواعد وأصول المقامات الموسيقية واللهجات ومخارج الألفاظ، وفوق كل هذا روح الناس في المكان المنقول عنه الأغنية، فالأغنية الشعبية كلمات وموسيقى خارجة من الطين والماء لتصعد في جذع وأغصان شجر الجميز وتخرج ثمرا لذيذا كما أن أوراقها ولحاءها ينتح بسائل كاللبن يشفى الجروح ويطيب القروح.
وقبل أن يختم الحفل غنت (يم) في مديح النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نعرف مدى ارتباط التراث الغنائي المصري بالمديح النبوي الذي يبدأ به كل شاعر ربابة غنائه مهما كان الموضوع التالي المديح.
والأغنية من كلمات وألحان النوبي بالطبع – على فكرة ناصر لا ينتمى إلى النوبة ولكنه من أبناء محافظة الأقصر واتخذت الأسرة اسم النوبي نسبة إلى سيدي النوبي أحد الأولياء في أرمنت – ولعلك لا تعجب عندما أخبرك بأن أغنية المديح النبوي أنتجها الشابان المسيحيان (مينا إبراهيم وفايز إبراهيم)، ليقدما مع (جميزة) برهانا على وحدة النسيج المصرى، حيث كانت دفاعاً ضد الهجمة المغرضة الأخيرة التى تقدمها بالحرية فقررت الفرقة تقديم هذه الأغنية في كليب مصور، لكنها لم تزل ما يجب أن تناله.. لماذا؟!.. لابد أنك عرفت السبب!.
لكن مازال هناك يقين وإيمان بأن الفن الأصيل سيصل ويطرد الفن الرديء من آذان وقلوب الناس.
المهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة وكثير مثل (ناصر ويم) يحاولون في شتى الفنون ولا حاجة للرهان لأن المكسب والخسارة له قواعد أخرى، وعند من وهبوا أنفسهم لكي يستمر الفن الأصيل.