أحمد زكي .. عميد فنون التمثيل
بقلم: محمود حسونة
مرت في تاريخنا وفِي حياتنا شخصيات أبهرتنا وأمتعتنا وعلمتنا، وتركت لنا رصيداً سيظل مصدراً لإمتاع أجيال، ومن هذه الشخصيات الفنان العملاق أحمد زكي الذي كان شعار الصفحة الرئيسية لمحرك البحث العملاق جوجل يوم الأربعاء الماضي احتفالاً بذكرى مرور ٧١ عاماً على ميلاده، وجاءت حروف جوجل مكتوبة بصورته محاطة برموز من أفلامه “اضحك الصورة تطلع حلوة” و “أربعة في مهمة رسمية” و”كابوريا” و “استاكوزا”، ولعله من عجائب القدر أن يشهد شهر نوفمبر الذي ولد في ١٨ منه أحمد زكي، وفاة نجله الأوحد هيثم الذي خطفه الموت وهو في ريعان شبابه في ٧ نوفمبر من العام الماضي ليلحق بوالدته ووالده، ويضع النهاية لنسل عائلة أضفت الكثير من البهجة على حياة الناس وصنعت لنا المتعة رغم أنها عاشت الكثير من المآسي وأوجعتها آلام لم يدر بها أحد.
أحمد زكي، الفنان الذي شهد لعبقريته الأعداء والأصدقاء، والذي كان هرماً عالي القامة في فن التمثيل، والذي نبحث عن أعماله لنشاهدها مع أبنائنا ونبلغهم بفخر واعتزاز أن هذا فنان خرج من باطن الأرض المصرية واكتسب سمرتها وحلق في سمائها ليقدم أعظم الأعمال الفنية، والتي بدأها بالمسلسل الخالد “الأيام” عن حياة الأديب الخالد وداعية “العلم كالماء والهواء” طه حسين.
ومثلما جمعت “الأيام” طه حسين وأحمد زكي، جمعتهما في زمنين مختلفين المعاناة ليجعلها كل منهما حافزاً للإبداع، وبدلاً من أن تقضي عليهما خلقت لديهما إرادة تحدى بها عميد الأدب العربي العمى والفقر والبؤس، وذات الإرادة تحدى بها عميد فنون التمثيل وأستاذ أساتذة التشخيص اليتم والفقر والوحدة، لينطلق في سماء الفن صانعاً من المجد ما كان يحسده عليه أقرانه، ولكنه مجد زائف لَم يخرجه من وحدته، بل عاش وحيداً معذباً بفراق زوجته وحب حياته الوحيد هالة فؤاد، وهو المصير الذي لاقاه ابنهما هيثم الذي عاش وحيداً ومات وحيداً، وكأن الوحدة كانت قدر العائلة.
أطلقوا عليه العديد من الشائعات خلال حياته، وربطوا بينه وبين فنانات عاطفياً، وحاولوا تلويث صورته، ولكن ذلك لم يشغله عن إبداعه ليعيش حالة التألق والوهج الفني منذ انطلاقته بعد “الأيام” وحتى وفاته قبل أن يكمل حلم عمره فيلم “حليم”. كما لم تشغله الأقاويل عن أن تكون هالة فؤاد حب حياته الوحيد الذي عاش وفياً له ولَم يقبل بالزواج من غيرها رغم زواجها من غيره، وخلال فترة مرضها عاش معها الألم عن بعد ويلاحق شقيقها هشام للاطمئنان عليها، وبعد أن سمع خبر وفاتها وهو يصور فيلم “سواق الهانم” انتحب وصرخ كما الأطفال حزناً عليها في الاستوديو أمام العمال والفنيين والفنانين، ولَم تستطع نجوميته أن تمنع دموعه أن تنهمر، وحتى بعد وفاتها لم يقبل بغيرها شريكة لحياته، وكانت علاقته بها بعد الطلاق خط أحمر ممنوع أن يتجاوزه الإعلام، وكان من الفنانين الذين يسمحون للصحافة أن تقترب من خصوصياتهم، ولها مطلق الحرية في تناول أعماله والحديث بلا قيود عنه كفنان.
ورغم كل هذا الحب لم يستطع أحمد زكي أن يكمل رحلة العمر مع هالة فؤاد، والسبب أنه كان فناناً متألقاً بداخله يسيطر عليه رجل شرقي التفكير، “فلاح شرقاوي” كان يحلم أن يقضي الزواج على عقدة اليتم والوحدة التي خلفتها داخله طفولته، وكان يريد تكوين أسرة كبيرة يسودها الدفء، بينما عشق هالة للتمثيل جعلها ترفض التفرغ لتحقيق حلمه، وفِي مواجهة ذلك كان عناده واصراره على مطلبه، ولعل أفضل تعبير عن ذلك هذا الكلام في حوار منشور له: (كنت أحلم ببيت وأسرة كبيرة وهالة كانت إنسانة راقية ولطيفة ومهذبة ومثلت معها ووجدتها نموذجًا هائلًا وتوسمت فيها زوجة رائعة وكانت متخرجة حديثًا من كلية التجارة).
وأردف: (اعتقدت أنها لا تحب الفن واكتشفت أنها تعشقه، وبعد الإنجاب قررت هالة أن تعود للتمثيل، فرفضت وفشلت فى إقناعها وأصبحت عصبيًا معها لأقصى درجة ممكنة).
هذ الكلام يكشف ملامح اللعنة التي أصابت هذه العائلة، وتركت أفرادها يعيش كل منهم رحلته القصيرة وهو يعاني الوحدة وآلام الابتعاد عن محبيه وضياع الحلم واندثار الألم.
أحمد زكي الفنان يحتاج إلى مجلدات، ويكفي أن من يشاهد أفلامه لا يجد شخصية قدمها تشبه الأخرى، بل حرص على أن يؤدي الشخصية ونقيضها خلال أفلامه الـ 56، من جندي “البريء” إلى ضابط “زوجة رجل مهم”، ومن “سواق الهانم” إلى “معالي الوزير” ومن “ناصر ٥٦” إلى “أيام السادات”، وهذه مجرد نماذج لحالة التحدي التي عاشها الممثل أحمد زكي والتي تركت لنا أعمالاً ستظل تبهرنا بقدراته على تقديم كل المتناقضات وتحويل الصعب إلى سهل.
وكان الختام مع شبيهه والأقرب إليه إبداعاً ومعاناة عبد الحليم حافظ، والذي وافته المنية قبل أن يكمله، ليكون إكماله نقطة انطلاق هيثم، الذي لم يمهله القدر ليعبر عن نفسه فنياً ويقدم موهبته بشكل صحيح.
mahmoudhassouna2020@gmail.com