سَاااااااجِط
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
سيظل التاريخ يذكر انتخابات مجلس النواب التى تمت فى مصر الأسبوع الماضى، و بالتحديد ليلة فرز الأصوات فى مدينة ميت غمر ، و سيتوقف التاريخ طويلا أمام ماحدث فى تلك الليلة ، فنحن – دون أن ندرى – قد عاصرنا لحظة من اللحظات الفارقة و شهدنا ميلاد حدث هام سيغير كثيرا فى الأجيال القادمة .
سيتبادر الى الذهن أننى اقصد نتيجة فرز الأصوات ، و رسوب مرشح ما ، سهرت مصر كلها فى انتظار رسوبه أو نجاحه . و الحقيقة أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير ، يتجاوز أحاسيس الفرح بالنتيجة أو الحزن ، و يتجاوز أحاسيس الانتقام و الشماتة أو أحاسيس الانكسار و الهزيمة ، و قبل أن نتناول الأمر بالشرح و التحليل لابد و أن أقر بأننى لست مشجعا لأى من فرق كرة القدم فى مصر و لا خارجها و لا أهتم بها و لا بأخبارها و زيد عندى مثل عبيد ، و كل ما أعرفه عن الكرة انها مستديرة و تسببت فى مشاكل و صراعات عديدة و يصل الهوس بها إلى حد الاقتتال ، و أصبحت أكرهها بعد حادث ستاد بورسعيد ، و تمنيت أن يتم منعها فى مصر تماما بعد حادث ستاد الدفاع الجوى . كما أقر أننى لا خصومة لى مع أى طرف من أطراف أحداث تلك الليلة ، فالأمر – من وجهة نظرى – يتجاوز كل ما يبدو على السطح ، و يحمل معانى أعمق و له دلالات أشمل.
و لابد أن أقر أيضا أن قراءتى لتلك الأحداث لا يتعلق بموقفى من التجاوزات التى قام بها أحد أطرافها على مدى سنوات طوال ، البعض يراها خمس فقط ، و البعض يراها عشر سنوات أى منذ ثورة 25 يناير و البعض يراها أبعد ، أى منذ انطلاق عصر السيديهات و دخول ذلك الاختراع حياتنا و استخدامه فى تشويه الخصوم بدلا من استخدامه فيما يفيد .
و الأمر يتجاوز عندى تفسيرات سبب رسوب مرشح ما ، و هل هذا الرسوب بأمر الحكومة أم بأمر الجماهير ؟ ، فلقد أطاحت تلك الانتخابات بشخصيات أخرى لا عداء بينها و بين الحكومة بل كانوا ( سمن على عسل ) و طرحت فى الإعادة أسماءً أخرى لا تطيق الحكومة أن تسمع سيرتهم . أى أننى أشك فى أى تدخل حكومى فى تلك الانتخابات و أستبعده تماما ، برغم أن البعض تمنى أن توحى النتيجة بأن الحكومة انتقمت لنفسها و لكل المضارين و المشتومين و المهانين – و هم كثر – بعد أن حمت الحصانة ذلك ( الساقط ) و كان فى استطاعة الحكومة أن تنزعها عنه بما لها من أغلبية فى البرلمان .
إننا يا سادة – و لأول مرة – نرى كل هذا الاهتمام الشعبى و الجماهيرى بنتيجة انتخابات برلمانية ، لدرجة أن تتحول أخبارها إلى ( ترند ) على وسائل التواصل الاجتماعى ، و تغطى على أخبار الانتخابات الأمريكية حتى أن بعض المواقع الإعلامية العالمية كتبت عنها معلنة أن مصر بأسرها سهرت فى انتظار النتيجة ، و هذا لم يحدث فى التاريخ الانتخابات التشريعية فى مصر ( و إن كانت قد حدثت فى الانتخابات الرئاسية بعد 25 يناير ) .
و نتاجا لهذا الاهتمام الشعبى الكبير ، و لأنها انتخابات مثيرة و نتائجها ستحدد أمورا كثيرة على صعيد السياسة – و ليس الكرة كما يتصور البعض – صاحبها ذلك التطور المذهل لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعى ، فرأينا متابعة على الهواء لوقائع تلك الليلة يقوم بها أفراد ، استطاعوا بأقل الإمكانات أن يتابعوا حدثا على الهواء شاهده مئات الآلاف – إن لم يكن ملايين – و قاموا بما تقوم به محطات و قنوات تليفزيونية لديها إمكانات ضخمة . و كان لهم من المشاهدين و المتابعين ما يفوق قنوات إعلام رسمية . و كان هذا يمثل طفرة فى التطور الطبيعى لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعى .
فمنذ سنوات قريبة دخلنا الى عصر السماوات المفتوحة ، مما مكن أفراد المجتمع الإنسانى من الاطلاع و بشكل فورى على مجريات الأمور فى أى بقعة من العالم ، و لذا سارعت كل دولة – أيا كان نظامها – بإنشاء محطتها التليفزيونية التى توجه رسائلها إلى الرأى العام الدولى سواء كانت علاقة الدولة بتلك المحطة فى العلن أو فى الخفاء ، و بعد قليل اتسعت رقعة المستخدمين لتلك السماوات نتيجة للتطور التكنولوجى فأصبح متاحا لكل فرد يعرف كيف يستخدم وسائل التواصل الاجتماعى و لديه ( باقة ) اتصال بالشبكة العنكبوتية أن ينشر رأيه و وجهة نظره على العالم كله ، و صار لكل فرد جريدته الخاصة و قناته التليفزيونية ، و كل ذلك بلا رقابة مسبقة على المواد المنشورة و إنما رقابة لاحقة ، و بإمكان الآخرين أن يناقشوه أو يردوا عليه بنفس الطريقة .
و رأى البعض أن هذا تطور ديموقراطى كبير فالكل يستطيع أن يعبر عن رأيه و بشكل مباشر و رأى البعض الآخر أن هذا أساء للبشرية حتى أن أحد الفلاسفة المعاصرين قال إن وسائل التواصل الاجتماعى سمحت لهؤلاء الحمقى الذين كان يتم إسكاتهم فى البارات بالإدلاء برأيهم ، و لكن الأمر تجاوز مجرد إبداء الرأى الى مرحلة نشر الأخبار ، فأصبحت وسائل التواصل هذه مصدرا للخبر و أيضا مصدرا للاكاذيب و الشائعات .
و لكن الجديد و المثير هو ما حدث فى تلك الليلة فى ميت غمر ، أن يتم متابعة و على الهواء مباشرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعى لحدث ما ، فكل السوابق كانت أن تسجل مقطعا و تذيعه ، و لكن بظهور تقنيه ( LIVE ) أصبح بإمكانك الاتصال المباشر و نقل الحدث فى نفس اللحظة ، و لكن أن يستمر الأمر لليلة كاملة و أن ينقل حدثا سياسيا مثل الانتخابات فهذا هو الجديد ، و هكذا كانت صيحة ( ساااااجط ) أو ساقط بالفصحى ، إيذانا بدخول عصر جديد فى تقنيات الإعلام ، هل نسميه الإعلام الفردى ؟ هل نسميه إعلام وسائل التواصل ؟
و لا عجب أن يتحرك سريعا الجهاز المسئول عن الإعلام و يغلق جميع الوسائل التى تخص أحد الشخصين الذين قاما بهذا العمل ، تحت دعوى ان المرشح الساقط قد تقدم بشكوى أنه قد تم سبه فى تلك الليلة و أثناء نقل الأحداث ، و نسى الجهاز أو تناسى أن الشاكى ظل لسنوات طويلة يسب الجميع و عندما عاقبه نفس الجهاز منع برنامجه لمدة أسبوعين و لم يغلق القناة تماما كما أغلق قنوات المشكو فى حقهم ، كما فات نفس الجهاز أنه قد أصدر حكمه قبل أن يجتمع و يبحث الشكوى المقدمة ، و كان الأولى به أن يصدر القرار بعد الاجتماع و ليس قبله احتراما لعقولنا ، و لكنى أظن أن رد الفعل السريع لجهاز الإعلام تحسبا و خوفا من انتشار الظاهرة الجديدة : ظاهرة متابعة الأحداث على وسائل التواصل.
ايها السادة لقد دخلنا عصرا جديدا الساقط فيه هو الإعلام الرسمى ، و قريبا نرى محطات و قنوات بلا ستوديوهات أو تجهيزات ( مجرد جهاز و باقة ) يديرها و يقدمها و يمولها مجرد أفراد . تهتم بالأحداث الجماهيرية الساخنة ، و تحظى بمشاهدة كثيفة ، على مستوى العالم كله ، و لكنها بلا رقابة!!.