بقلم : محمد حبوشة
تابعت عن كثب زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل أيام قليلة إلى اليونان، والتي تضمنت رسائل غاية في الأهمية والقوة والخطورة معا، ومع ذلك لم يفهم الإعلام المصري بجيوشه الجرارة عبر قنواته الفضائيات المفتوحة ليل نهار تركز في مضمونها على بعض القضايا الخلافية العقيمة في أمور الدين والدنيا الموجودة داخل مصر – وهى بالمناسبة مثلها مثل أي بلد آخر على وجه الكرة الأرضية – وكأن (برامج التوك شوز المسائية) تحديدا أردات أن تغض الطرف عن أهم قضايانا المصيرية، إما عن جهل بمضمون الرسائل التي ساقها الرئيس في سياق زيارته التي حركت كثير من المياه الراكدة في شرق المتوسط، أو مع سبق الإصرار والترصد بهدف إجهاض متعمد لكافة جهود رجل الدولة القوي الذي لايألو جهدا في سبيل رفعة هذا الوطن بين الأمم والشعوب.
حتى الصحافة الورقية والإلكترونية هى الأخرى لم تهتم كثيرا بتحليل نتائج تلك الزيارة إلا بعضا منها بعد عودة الرئيس إلى أرض الوطن، حيث عرضت قول الرئيس عبد الفتاح السيسي: إن العلاقات مع اليونان تتقدم بشكل كبير، مشيرا إلى أن توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية أمر يعكس حجم التفاهم وقوة العلاقات بين البلدين، كما ركزت على تصريحه الذي يحمل رسالة قوية: أن مصر تقف بجانب اليونان ضد أي عمليات استفزازية في شرق المتوسط أو مرتبطة بحدودها البحرية في حدود القوانين والأعراف الدولية، وهو هنا يرمي بالتأكيد إلى السبب الذي أشعل حدة الصراع بين مصر وقبرص واليونان من جهة، وتركيا من جهة أخرى على ثروات البحر المتوسط، حيث اتهمت مصر السلطات التركية “بمواصلة اتخاذ إجراءات أحادية” تزيد من حدة التوتر في المتوسط، على خلفية إرسال أنقرة سفينة ثانية إلى سواحل شمال قبرص للتنقيب عن الغاز هناك.
ربما أشارت بعض الفضائيات الأجنبية التي تنطق العربية مثل (RT – الروسية) إلى أن أطماع أردوغان فى المتوسط والتي تواجه رفضا أوروبيا وأمريكيا كما بدا من تحذير أمريكا منتصف الشهر الماضي تركيا من المضى قدما فى خطط التنقيب عن النفط والغاز قبالة الجزر اليونانية، فى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، من أجل تجنب زيادة التوتر بالبقعة الساخنة من العالم، ويأتي ذلك في وقت بدأ فيه الاتحاد الأوروبى خلال وقت سابق من الشهر الماضي بدراسة فرض عقوبات جديدة على أنقرة، تضاف إلى الخطوات التى اتخذت بسبب عمليات التنقيب التركية فى المنطقة الاقتصادية التابعة لقبرص واليونان.
معروف أنه في 21 أكتوبر الماضي خلال القمة الثامنة لآلية التعاون بين البلدان الثلاثة (مصر – قبرص – اليونان) تجاوزت الرسائل الحادة التي وجهها قادة تلك الدول حدود التعاون الرئيس القائم بينهم منذ سنوات في مجال استغلال اكتشافات الغاز الضخمة في شرق البحر المتوسط، في ظل توتر علاقات الدول الثلاث مع تركيا، لتشمل هجوما حادا على مجمل مواقف وسياسات أنقرة في المنطقة، بما في ذلك إشكاليات علاقتها بالاتحاد الأوروبي وغيرها، مع تعهد بالتصدي (لاستفزازاتها وانتهاكاتها) في منطقة شرق المتوسط، والتأكيد المشترك على رفض وجودها العسكري في ليبيا وسوريا وعمليات نقل المقاتلين الأجانب إلى ساحات الصراع، بما في ذلك إقليم (ناغورنو قره باخ) المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وذلك في ختام القمة التي استضافتها هذه المرة العاصمة القبرصية نيقوسيا، ووصفها رئيسها نيكوس أناستاسيادس بأنها “ليست موجهة ضد أحد”.
وبينما أكد “إعلان نيقوسيا” التصدي للاستفزازات في شرق المتوسط، قال رئيس الوزراء اليوناني (كيرياكوس ميتسوتاكيس) إن القمة الثلاثية ناقشت الأمن الإقليمي، لكنه في الوقت ذاته دان الممارسات التركية في شرق المتوسط، مشيراً إلى أن أنقرة تمارس سياسة استفزازية تتسبب بمخاطر كبيرة في المنطقة، وأضاف أن أنقرة تتبع سياسة توسعية تهدد المنطقة بأكملها، من خلال مواصلة انتهاك القانون الدولي وتقويض القانون، لافتاً إلى أن هذه الممارسات أدت إلى مشكلات كثيرة داخل حلف “الناتو”.
لكن يبدو أن الأغا التركي (أردوغان) لا يلقى بالا لكل ذلك، ويمضى قدما نحو اختراق الحدود اليونانية والقبرصية بشكل علني ودون أدنى رادع ، حتى جاءت زيارة الرئيس السيسي في هذه اللحظة الحاسمة لتوقف غطرسته – ولعل هذا ما كان ينبغي شرحه تفصيليا من جانب بعض فضائيتنا في وقت زيارة السيسي لليونان – لبيان تحركات مصر في المتوسط، على مدى الشهور الماضية وتقاربها مع اليونان بشكل أكبر، وهو الأمر الذي سبب صداعا هائلا لأردوغان وأصاب خططه بالشلل للتوسع والعدوان في المتوسط على حساب ثروات ومقدرات غيره، وظني أن هنالك حصارا دوليا وإقليميا وشيكا لأردوغان، وذلك بعد استقرار الأحوال في أمريكا عقب حسم نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
أوقفت مصر، واليونان، أطماع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى ثروات البحر المتوسط من الغاز، بتوقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين من قبل، وبالنظر إلى الاتفاق الذي تم في أثناء زيارة السيسي الأخيرة سنجد أنه لا يوقف فقط أطماع أردوغان فى المياة الإقليمية للبلدين، وإنما يلقى الضوء أيضا على نهب تركيا الممنهج لثروات ليبيا، الذى يتم بموجب اتفاق عار من الشرعية مع حكومة الوفاق التى يقودها فائز السراج، والذى يسعى إلى تقديم مقدرات وثروات الشعب الليبى لصالح حليفه رجب أردوغان كمحاولة لإنقاذ اقتصاد أنقرة المأزوم، ولهذا وقعت مصر واليونان، اتفاقا لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فى خطوة تهدف إلى تنسيق جهود الاستفادة من موارد منطقة شرق البحر المتوسط، وقطع الطريق أمام الأطماع التركية فى سلب غاز منطقة شرق المتوسط.
كان يمكن لقنواتنا الفضائية عبر برامج (التوك شوز) الغارقة في براثن الخيبة، أن تحلل أبعاد الاتفاق المصري اليوناني وأيضا ما تبعه من كواليس في أثناء الزيارة بشكل أكثر تفصيلا من خلال خبراء ومحللين يلقون أضواء كاشفة حول الرسائل المهمة التي تضمنتها القمة بين السيسي ورئيسة اليونان – لا أن يتم التركيز على تاريخ العلاقات بين البلدين كما ذهبت بعض القنوات ومحطات الراديو متغافلة الرسائل المهمة – والتي بموجبها صرح (أردوغان) بأنه على استعداد للمصالحة والتعاون بينه وبين دول شرق المتوسط التي حاول من قبل السيطرة على مواردها من الغاز، وهو ما يشير إلى مناورة جديدة في إطار المرواغة التي عرفت عن الحالم بعودة الخلافة العثمانية على أنقاض وجثث جيرانه.
ألم يكن حريا بقنوات مصر الفضائية وصحفها ومواقعها الإلكترونية توضيح الصورة أكثر أمام الجمهور المصري على الأقل في شأن كيف تمكن نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من قلب المعادلة السياسية في الشرق الأوسط ونقلها إلى شرق المتوسط، في نزاع أزلي بين بلاده واليونان، سبقه في ذلك مرور سياسات الرئيس التركي في شرق الفرات والتدخل في شؤون دول عربية، والتعدي على سيادتها، لكنه نجح بطريقة أو بأخرى في خطف الأنظار من منطقة سادتها الحروب والدمار لنحو عقودة عدة، بداية من الحروب العربية الإسرائيلية حتى التدخل الإيراني في المنطقة، لكن ضرورة التهدئة في مختلف الجبهات مكنت النظام الإخواني من تحويل انتباه العالم إلى تخوم الاتحاد الأوروبي، وهذه المرة سخن صفيح المواجهة التي كادت تصل حد المواجهة العسكرية، لكن هذه ليست الجبهة الوحيدة، التي جار فيها الرئيس الإخواني على دول المنطقة، إذ تطاول على دولة عربية تملك جيشا عظيما، يرجح أنه الأقوى عسكريا في المنطقة، بحسب آخر التصنيفات.
لماذا لاتشكل قنوات مصر الفضائية وصحفها ومواقعها الإلكترونية جبهة قوية تتصدى لإعلام أردوغان والقنوات الإخوانية القبيحة، من خلال رسائل إعلامية قوية توضح لنا كمصريين وعرب وباقي شعوب الدول المحيطة بنا بأن مصر تملك جيشا قويا يمكنه ردع من تسول له نفسه العبث بمقدرات هذه الأمة، وسياسة خارجية متزنة تعرف كيف تختار التوقيت المناسب للتفاوض والنقاش، ما جعلها حليفا مرغوبا فيه من جميع الأطراف، وهو ما يأتي في ظل وجود أصوات نشاز تسعى إلى السيطرة على القرار المصري بطرق وأساليب ملتوية، مثلما حصل في التجربة التركية، ولعل نذكر بالأمس القريب عند وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة بعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك عقب أحداث 25 يناير، إذ سعت أنقرة والدوحة إلى قطف ثمار الحكم الإخواني للبلاد، لكن سرعان ما تبخر الحلم، بعودة الأمور إلى نصابها الطبيعي، وخروجهما من المعادلة إلى الأبد بفضل وعي الشعب المصري الذي أصبح يدرك الحقائق كاملة.
يا أيها الإعلاميون المصريون الشرفاء: لماذا لايكون لكم صوتا مسموعا في تركيا ذاتها، خاصة أن المعارضة التركية كان لها رأي آخر في الموضوع، وفضلت مهاجمة الرئيس رجب طيب أردوغان والإخوان المسلمين، ومن ثم ينبغي استضافتهم في قنواتنا؟، لماذ لم نستغل هجوم (كمال كليغدار أوغلو) رئيس حزب الشعب المعارض، الذي لم يكن تصريحا لإحدى الوسائل الإعلامية، لكنه كان من منبر البرلمان التركي، مشددا على ضرورة تخليص تركيا من خطر الإخوان المسلمين والانفتاح على الدول العربية، خصوصا مصر، قائلا: من الإخوان؟، إن مصالح الدولة التركية فوق كل شيء”، مطالبا أردوغان بضرورة التخلي عن الإخوان المسلمين، إضافة إلى التصالح مع القاهرة، وإرسال سفير إلى مصر، مشيرا إلى أن مخالفة مصر تنعكس سلبا على تركيا، مضيفا “سنتصالح مع مصر، فلماذا علينا أن نتصارع معها؟.
مثل هذا الرجل كان يمكن استضافته بقنواتنا، خاصة أن لغة خطابه تتسم بالقوة والمعرفة والضمير الإنساني الحي، وهو ماأكده حين قال: (لدينا تاريخ وثقافة مع مصر، فبأي ذريعة نتصارع إذاً، ولا سيما أن فاتورة هذا الصراع ثقيلة على تركيا)، لكن النظام التركي يحتفظ حتى اليوم بقيادات مصرية لجماعة الإخوان المسلمين، كان لها دور تخريبي في البلاد، بتنفيذ أعمال عنف استهدفت عناصر أمنية وعسكرية مصرية عام 2013، كما تبث قنوات تلفزة مصرية ذات طابع إرهابي من الأراضي التركية، للتحريض على النظام المصري بتمويل قطري.
سلوك الرئيس التركي المستفز للمجتمع الدولي، لفت الأنظار إليه أخيرا، لكنه لم يلفت انتباه قنواتنا الغارقة في العشوائية وعدم المهنية بالشكل الكافي، لذا كان ينبغى على إعلامنا المصري التركيز على تصرفات أردوغان بعد رسائل السيسي القوية في أثناء زيارته الأخيرة لأثينا، خاصة أن هذا الرجل يتعامل مع أزمة شرق المتوسط، بتنمية المشاعر لدى الشعوب، مقدما مشاريعه التوسعية على أنها فتوحات إسلامية، خصوصا في تقديم الخلاف مع اليونان على أنه حرب مقدسة بين المسلمين والكفار، إذ شهدت الآونة الأخيرة طلائع مواجهة عسكرية بين الدولتين، بعد تحرك عسكري تركي، تمثل في إرسال أنقرة طائرتين مقاتلتين نفذتا غارات جوية فوق جزيرة كاستيلريزيو، تلاها إرسال 18 سفينة عسكرية إلى جزر يونانية، فيما حشدت اليونان قوات عسكرية متنوعة، استعدادا للمواجهة العسكرية مع تركيا، لكن جهود الوساطة الألمانية حالت دون وقوع تماس عسكري بين الدولتين، وخفضت مستوى التوتر إلى النبرة الكلامية المتصاعدة.
ولاننسى دوما أنه على جانب آخر من اللعبة القذرة تتبنى قطر الترويج لسياسات أردوغان على أنه الفاتح الإسلامي وحامي حمى ثغر المسلمين، في حالة مطلقة من التمادي السياسي والإعلامي، ضمن استراتيجية الخداع الجماهيري، المتمثلة في النواح على القضية الفلسطينية مقابل الازدهار الاقتصادي، المبنية أركانه على التعاون مع إسرائيل .. ألم أقل منذ البداية أن قنواتنا تعيش حالة الغيبوبة والبعد تماما عن المصلحة الوطنية التي تقتضي الاصطفاف خلف الرئيس السيسي ومساندته في كل مساعية الخارجية والداخلية لأجل علو شأن مصر وتأكيد مكانتها على خارطة العالم؟!!.