الموهوب بزيادة : أحمد أمين
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
على الرغم انه من المفترض فى المقالات الصحفية أن يوحى عنوان المقال بالمحتوى و لا يكشفه ، حتى يضمن الكاتب أن يشد القارئ لقراءة المقال حتى نهايته ، و على الرغم ايضا أن شهادتى فيه مجروحة فهو صديق و ابن من أبنائى الذين أعتز بهم ، و على الرغم أن العمل الذى سأتحدث عنه ربما لم يره بعد كل الناس ، و على الرغم من كل هذه ( الرغمات ) فإنى من فرط حماستى و فرحى لم أستطع إخفاء ما أريد قوله ، و وجدت نفسى مندفعا لاكتب عن الموهوب بزيادة : الفنان أحمد أمين.
ففى الخميس الماضى بدأت منصة (نتفليكس) عرض أول مسلسل مصرى من إنتاجها ، فبعد أن انطلقت الشركة فى 1997 لتعمل فى نشاط تأجير اسطوانات الفيديو ، أتاحت لمشتركيها عام 2007 نظاما للمشاهدة يسمى ( المشاهدة الآن ) يسمح بالمشاهدة عبر النت دون تأجير اسطوانات و أصبحت أكبر شركة فى العالم فى هذا المجال ، و بعد أن كانت تعرض أعمال شركات السينما المختلفة ، بدأت منذ 2013 فى إنتاج محتوى خاص بها ، و لذا فإنه أمر عظيم أن يحظى مسلسل مصرى ( تأليفا و تمثيلا و اخراجا ) بهذه الفرصة ليذاع فى هذه المنصة التى تصل الى كافة دول العالم ( ماعدا الصين و سوريا و كوريا الشمالية ) و أن يترجم إلى أكثر من 32 لغة ، و أن يكون مطروحا أمام مايزيد عن 195 مليون مشترك رسمى غير ملايين من قراصنة النت . و بهذا يفتح طريق للدراما المصرية لتأخذ مكانتها العالمية بعد أن سبقتها الدراما التركية بأشواط.
و بما أن أكثر الأعمال مشاهدة على المنصة هى مسلسلات الرعب و مسلسلات الجريمة ، فقد كانت نتفليكس من الذكاء بحيث اختارت أعمال الكاتب ” أحمد خالد توفيق ” و بالتحديد سلسلته الطويلة ” ماوراء الطبيعة ” لتبدأ بها انتاجها المصرى ، فهناك أجيال عاشقة لاعماله ، تربت على كتاباته و كان كاتبها المفضل لسنوات طوال ، الى جانب موافقة تلك الاعمال لذوق مشاهدها العالمى.
و إذا كنا فرحين لهذا الحدث فإن الفرح الأكبر أن ينجح العمل ، فيزيد الطلب على المسلسلات المصرية لتعرض عالميا ، و تتحرك الافلام المصرية الموضوعة على تلك المنصة لتخرج من حيز الشاهدة العربية الى المشاهد العالمى ، و بذلك تنتعش لدينا صناعة السينما ، و هى صناعة هامة كانت فى وقت من الأوقات المصدر الثانى للدخل القومى بعد القطن فى منتصف القرن الماضى ، و فى نهايته كنا الأوائل على مستوى الدراما التليفزيونية ، و نحن بالفعل مؤهلين كقوى بشرية و إمكانات فنية للعودة للمنافسة فى تلك الصناعة عالميا و أن نعود الى السباق من جديد .
و لقد شاهدت العمل فور طرحه للمشاهدة على المنصة ، و برغم هنات بسيطة و ملاحظات قليلة فإن العمل يستحق الإشادة و التهنئة و خاصة صاحب الرؤية الفكرية المخرج ” عمرو سلامة ” و المنتج ” محمد حفظى ” ، فلقد قدما عملا جديرا بالاحترام ، و هذا ليس غريبا عليهما ، و لكن المفاجأة الكبرى كانت الموهوب ( أحمد أمين ).
لست هنا معنيا بمدى التشابه فى الملامح بين الممثل و الشخصية التى يتخيلها القراء على هواهم ، و لكننى معنى هنا بمدى إجادة ( أحمد أمين ) فى تقديم الشخصية على المستوى النفسى و الجسدى ، فالمعروف عنه أنه كوميديان ، و دائما ما يستخف الناس بالكوميديانات كممثلين قادرين على تجسيد شخصيات مركبة . ربما لميراثنا عن فكرة المضحكاتى أو ربما للأثر الفكرى الذى تركه لنا ” أرسطو ” من أن الكوميديا فن من الدرجة الثانية – عكس التراجيديا – و انعكس هذا على نظرتنا لكل ما يتعلق بالكوميديا كتابا و ممثلين ، و لكن ( أمين ) استطاع إثبات خطأ تلك النظرة ، و قدم لنا شخصية ( الدكتور رفعت اسماعيل ) المركبة و المتناقضة ببراعة شديدة و استطاع توظيف أحاسيسه و لغته الجسدية و طبقات صوته لصالح الشخصية فى مواقفها المختلفة و تناقضاتها الكثيرة و تقلباتها المفاجئة مابين السخرية و المرارة المغلفين بالحزن و التشاؤم ، و ما بين الثقة المفرطة فى العلم و سيطرة الخرافة على كل تفاصيل حياته.
و بدون الدخول فى تفاصيل تضطرنى لأن أروى احداث المسلسل ، استطاع ( أحمد أمين ) أن يقدم لنا شخصية من لحم و دم ، تجمع كل المتناقضات فى مزيج غير متنافر ، و ألبسها ثوبا من الصدق الشديد ، و كأنه يعزف بجسده مشاعر الشخصية و يرسم بصوته أحاسيسها ، انظروا إليه كيف يحافظ طوال الحلقات الست على طريقة سير الشخصية و انحناءتها الخفيفة ، و الكتف الذى هو أعلى من مثيله و هو تشوه جسدى ناتج عن الجلوس طويلا الى المكتب ، إنها القدرة على تجسيد تلك الشخصية حتى فى تشوهاتها الجسدية . و كانت نظرة عينه كافية – فى مواقف كثيرة – لترجمة إحساس الشخصية و هى قدرة لا تتوافر إلا لكبار الممثلين.
و الحق أقول اننى لم أندهش من قدرة أمين على هذا التمكن ، فمعرفتى الطويلة به جعلتنى أثق فى موهبته منذ أعوام طويلة ، ففى نهاية التسعينات رأيته لأول مرة فى عرض مسرحى من إخراج صديقى المخرج الكبير خالد جلال بمسرح الطليعة ، و أذكر أننى ليلتها انتظرته طويلا حتى خرج لكى أهنأه على موهبته ممثلا و عازفا على آلة الكمان فى العرض ، و طلبت منه أن ينضم إلى ورشة كنت اقيمها لتقديم عمل مسرحى ، و خلال تلك الورشة علمت أنه خريج كلية الفنون الجميلة و مارس التمثيل فى أتيليه المسرح و هى إحدى فرق التمثيل الجامعية الشهيرة وقتها ، و زاد إعجابى به : ممثل و عازف و فنان تشكيلى و يمارس الثلاث مجالات بجودة ، فقررت تبنيه فنيا ، و لكن للأسف توقفت الورشة لأسباب خارجة عن إرادتى و اختفى ( أحمد السيد أمين ) كما كان معروفا وقتها.
بعدها بسنوات طوال قرأت اسمه كاتبا لمسلسل كارتون ، فسألت عنه و علمت أنه ترك التمثيل و يعمل بإحدى مجلات الأطفال ، و لكنه يكتب أحيانا ، و هكذا أضيفت له موهبة جديدة ، و التقيت به مصادفة و قد جاء يشاهد زملائه السابقين بالكلية ( ماجد الكدوانى و بيومى فؤاد ) فى عرض من إخراجى ، و عندما رأيته لم أستطع سوى أن اقول له إنه لو استمر فى التمثيل لوقف بجوارهم الآن . و عندما أتت الفرصة و إيمانا منى بموهبته طلبت منه أن ينضم الى فريق كتابة برنامج مسرحى كنت أخرجه و لكنه – لظروف تخصه – لم يستطع الاستمرار.
بعدها بسنوات عاد الى التمثيل و لكن من خلال اليوتيوب فى فيديوهاته الشهيرة ( فى 30 ثانية ) التى صادفت نجاحا كبيرا و شهرة عريضة فى هذا المجال ، بعدها قدم برنامج (البلاتوه) و بعد انتهاء الحلقة الأولى منه وجدت نفسى أسعى إلى الاتصال به للتهنئة و لكنى كنت أدرك أن مازال لديه الكثير و أن موهبته الكبيرة لم تكشف عن نفسها تماما.
ثم جاءت الفرصة لنتعامل سويا من خلال إشرافى على مجموعة مسرحيات – بطلب منه – أشرف هو على كتابتها و قام ببطولتها و أخرجها شريكه فى الحياة و فى الفن المخرج الموهوب علاء إسماعيل ، فوجدت شخصا يكتب و يمثل و يغنى و يرقص و يعزف عدة آلات بمهارة فائقة ، و يهتم بادق التفاصيل ، قلق دائما ، حريص على الاجادة ، يبذل اقصى جهده ، و بعد كل هذا لا يرضى أبدا عن نفسه.
و لكننى اليوم أكتب كل هذا لأقول له و بلا مجاملة و بلا مبالغة : يحق لك اليوم أن ترضى عن نفسك ، و يحق لك و لكل صناع المسلسل أن تفخروا بالمستوى الذى قدمتموه ، و بأنكم حققتم حلم الدكتور أحمد خالد توفيق فى ظهور أعماله على الشاشة ، و على الرغم من كل هذا ( و هى آخر على الرغم سأذكرها ) فإنى فى انتظار المزيد منك يا صديقى الموهوب بزيادة.