* الدكتور مصطفي محمود يصر على وجود مخ بشري في (العنكبوت) والمليجي يرفض التصوير
* الحكيم ينفي بخله عن طريق التليفزيون، وأكد نجاح (المراة التى غلبت الشيطان)
* يوسف إدريس يهنأ المخرج بالجائزة ويثور عليه بسبب رأفت الهجان
* حسين فهمي يرفض ارتداء ملابس الأعدام ويحاول الأعتذار عن الفيلم
كتب : أحمد السماحي
يحيى العلمي واحد من أعمدة الإخراج الدرامي والسينمائي فى مصر، وواحد من مؤسسي الدراما التليفزيونية بحضوره الإبداعي الإنساني المتميز ووهجه المتجدد، ومن القلة القليلة التى نجحت في الصعود إلى الواجهة بعدما كان نجوم التمثيل يحتكرونها، كان يقال مسلسل للمخرج (يحيي العلمي) لأن أعماله الدرامية التليفزيونية خاصة نقلة نوعية وحاسمة ولافتة في تاريخ الدراما، قبل أن تسقط في وحل هذه الأيام حيث صارت الأسماء المجهولة تتصدر واجهة كل شيئ في الحياة السياسية والثقافية والفنية على حد سواء.
كما قدم العديد من الأعمال السينمائية الهامة مثل (ملك التاكسي، خطيئة ملاك، شباب يرقص فوق النار، الليلة الموعودة، تزوير في أوراق رسمية، الخدعة الخفية، حلوة يا دنيا الحب،الدموع الساخنة، لقاء مع الماضي،خطايا الحب، فتوات بولاق، ليل ورغبة، الليلة الموعودة، جذور في الهواء) وغيرها.
في الحلقة الماضية تحدثنا عن الجزء الأول من كتابه (أيام تليفزيونية) وذكرياته مع عميد الأدب العربي، وكواليس مسلسل (رأفت الهجان) وغيرها من الذكريات وفى هذه الحلقة نواصل الإبحار مع ذكريات مخرجنا الراحل (يحيي العلمي)
مخ بشري في الاستديو
يتحدث (العلمي) عن ذكرياته مع الدكتور (مصطفى محمود) لأول مرة من خلال مسلسل (العنكبوت) الذي أخرجه وقام ببطولته (محمود المليجي، وعزت العلايلي) ويتحدث عن فكرة الاستنساخ، وكيف أصر الدكتور (مصطفى) على وجود مخ بشري حقيقي فى المعمل الذي يعمل فيه الدكتور(محمود المليجي) ضمن أحداث المسلسل، وعندما اعترض (العلمي) وقال له: لازم يعني مخ بشري؟ ضحك مصطفى محمود وقال: يعني نروح لأقرب جزار ونشتري مخ عجالي، يا عم (علمي) كم عالم وكم دكتور حيشوفوا المسلسل، يصح برضه تضحك عليهم، وإن كان في الحقيقة هم اللي حيضحكوا علينا) وتلقى العلمي الدرس.
وطاف معه النهار كله فى متحف كلية طب قصر العيني وشاهدا عشرات الأمخاخ البشرية الغارقة في المحاليل داخل صناديق زجاجية، ولم يرض (مصطفى محمود) عن أي منها، وسأله العلمي: بربك ماذا تريد يا دكتور؟!، قال: الحقيقة والأمانة العلمية، ومضى أسبوع وبقى على موعد التصوير واحد واحد حتى فوجئ بالدكتور مصطفي يقتحم باب مكتبه وهو يهلل في سعادة الأطفال، خلاص يا عم علمي لقينا طلبنا، صور بقي وأنت مطمئن ده مخ بني آدم كان عايش من ثلاثة أيام الله يرحمه!.
المليجي يرفض التصوير
وفى أول يوم تصوير دخل من باب البلاتوه في حيوية ضاحكة الفنان (عزت العلايلي)، وجذب العلمي محذرا وقائلا: الحق عمنا المليجي مزرجن ومش عايز يمثل، وذهب (العلمي مع العلايلي) إلى (المليجي) حيث فوجئ به يقول: مجنون، مخرج مجنون، وأجابه: الأمانة العلمية يا عم مليجي، فرد بذهول: مخ بشري؟ فقال المخرج الشاب: الحقيقة يا أستاذ دي أوامر الدكتور مصطفى محمود، فقال المليجي:أتعرف أنني سأظل بجواره طوال المسلسل أي لمدة تزيد على شهر، فرد العلمي: أعرف، فقال باندهاش: أشعر أنني بجوار جثة رجل ميت، فرد المخرج: إنها الحقيقة.
ونظر المليجي بطيبة واستسلام إلى عزت العلايلي محرضا وقال له: حتكمل المسلسل مع المجانيين دول؟! وقهق عزت وجذب العلمي من ذراعه وقال: عمنا المليجي وحش الشاشة خايف، فرد العلمي: عنده حق، وضحك عزت أكثر وقال: يبقى أنت اللي مش حتكمل، وفجأة دخل الدكتور مصطفى محمود الذي جاء لزيارتهم في أول يوم تصوير، وبعد الترحيب قال له المليجي شاكيا: شفت المخرج المجنون، حططلنا في الديكور مخ بحق وحقيقي.
وترك العلايلي والعلمي، الدكتور مصطفى مع المليجي، وخرجا وبعد نصف ساعة كان المليجي ينادي على العلايلي وهو كله حماس ورغبة في التصوير.
الحكيم ينفي بخله بحيلة ذكية
تحت عنوان (توفيق الحكيم ابتسامة جيل) كتب (العلمي) ذكرياته مع الأديب والمفكر والكاتب الكبير، فقال: في آواخر الستينات اقتحمت مكتبه بناء على موعد سابق ومعي كاميرات سينمائية ومعدات إضاءة وأجهزة تسجيل صوتية، ورحب بنا وبمطلبنا في أن نقدم له عملا من أعماله القصصية في برنامج (كاتب وقصة) وأذكر أنها كانت قصة بعنوان (الرجل الذي صمد)، ولكنه رفض أن نصوره أو نسجل له، وعندما سألته قال: أصلي بصراحة باتشاءم، ده أنا بخاف احتفل بعيد ميلادي، وبعد جدل ونقاش وافق على طلبنا بعد أن أملى علينا شرطه الوحيد والغريب، فقال: أتصور لكن بدون صوت، ودخل ساعي لمكتبه يحمل صينية ضخمة مليئة بأكواب الشاي الصغيرة، وحين انتهينا من التصوير استمهلنا ضاحكا: فاتتكم لقطة مهمة، ونادى على ساعي مكتبه وأمره أن يدخل علينا مرة أخرى حاملا الصينية الضخمة المليئة بأكواب الشاي الصغيرة، وقال بحماس: دي أهم لقطة في البرنامج.
ولم يعطنا فرصة السؤال: أصلهم بيقولوا على بخيل، ودارت الكاميرا تصور له ما يريد.
المرأة التى غلبت الشيطان
اللقاء الثاني مع الحكيم كان فى أوائل السبعينات عندما ذهبت إليه أنا وأحد المنتجين نشتري روايته (المرأة التى غلبت الشيطان) لكي نحولها إلى فيلم سينمائي، كان الفيلم هو تجربتي الأولى فى الإخراج السينمائي، وكان الخوف يملأ قلبي، ورفض أن يتقاضى ثمن قصته شيكا مصرفيا، وجلست أراقبه وهو يحصي الأوراق المالية بنفسه حين رفع عينيه نحوي وقال: فاكر صينيه الشاي؟ وابتسمت، وحين دخل الساعي يحمل صينية صغيرة عليها فنجالا قهوة فاجأني بالسؤال: أنت خايف؟ وتساءلت بيني وبين نفسي هل سمع نبضات قلبي؟ وابتسم مرة أخرى وهو يزال يحصي الأوراق المالية وقال : متخافيش القصة غريبة شيطان بيشتري روح إنسانة، خيال، وفكر وفلسفة، بس حتبقى موضوع لفيلم ناجح، وتمتمت داخل نفسي : يارب وعاد يقول وهو لا يزال يحصي الأوراق المالية: ما هو لازم السينما تكسر المألوف حنفضل طول عمرنا ندور على الولد اللي بيحب البنت والبنت اللي بتحب الولد؟
ونظرت إلى شاربه الفضي الكث الذي يتوج ابتسامته وأدركت مدى شباب هذا الرجل، ودوى بداخلي حماس التجربة الذي صنعت به فيلمي الأول.
سر ثورة يوسف أدريس
ينتقل بينا (يحيي العلمي) إلى كاتب آخر أو عملاق آخر هو (يوسف أدريس) الذي قابله وسط ضباب لندن فى أوائل السبعينات فيقول: التقيته كان كلانا يسير متسكعا في نهار يوم أحد مشمس في (أكسفورد استريت) وحين رأيته انقشعت ألوان لندن الرمادية، وحين جلست معه على رصيف مقصف صغير كنت في الحقيقة أجلس معه على رصيف مقهى الفيشاوي، ولكن في لندن، كنت في بعثة تعليمية فنية، وكان هو فى إحدى رحلاته العلاجية العديدة.
قبلها بسنوات رن جرس التليفون بمنزلي ملحا بعد منتصف الليل قال: أنا يوسف إدريس، وطار النوم من عيني، وبصوت حاد لكنه مبتهج قال: مبروك، خير؟! لقد فزت بجائزة الدولة التشجيعية في الفنون عن مسلسل (العنكبوت) لمصطفى محمود، أنا لسه راجع من لجنة الجوائز دلوقتي، بكره ولا بعده حتقرأ الخبر في الجرنال، بس أنا قلت أبقى أول واحد يهنيك، ولو اني واخد على خاطري منك، سألته : ليه يا دكتور يوسف؟! قال : كان نفسي تأخذ الجائزة عن إخراجك لقصة من تأليف يوسف إدريس.
ولم أنم ليلتها ولم أنم بعدها لعدة ليال، فقد طارت الجائزة لتسقط في حجر محظوظ آخر، وحين قابلته قال بصوت حنون ساخر وثائر: ولا يهمك بكره حتخدها أكيد حتخدها، وبعدها بسنوات عشر أو تزيد حصلت على الجائزة وكانت أول مكالمة تليفونية للتهنئة من الإنسان والصديق يوسف إدريس.
رأفت الهجان سبب الثورة
بعد انتهاء إذاعة أولى حلقات مسلسل (رأفت الهجان) وقبل أن تنتهي عناوين النهاية، كان معي صوته عبر سماعة التليفون وقال: لا أحدثك لكي أهنئك، بل أحدثك لأن هذا حقك على، قلت له : أشكرك يا دكتور يوسف، فقال : لا داعي للشكر نحن الفنانين نعمل لكي نسمع كلمة إعجاب من الآخرين، فما بالك أن نسمعها من بعض، ده حق لينا وواجب علينا، وهزني حديثه حتى الأعماق، وأردت أن أرد تحيته بمجاملة فقلت: لعل هذا يشجعك أن تثق في فتعطيني إحدى قصصك لكي أخرجها في مسلسل جديد، ولم أكد أنهى مجاملتي حتى انفجر البركان ثائرا هادرا مزمجرا، وقال: ألا ترى أنك تخطئ في حقي بقولك هذا؟ أنا لم أحدثك لكي أعقد معك صفقة.
وتمنيت أن أخترق سماعة التليفون لكي أصل إليه وأعانقه بكل الحب لأطفئ بركان غضبه، وبعد معاناة قبل الاعتذار ورفض المجاملة.!
ليلة إعدام حسين فهمي
تحت هذا العنوان يتذكر يحيي العلمي (ليلة إعدام حسين فهمي) فى فيلم (خطيئة ملاك) الذي قام بإخراجه فيقول: كان المشهد من فيلم (خطيئة ملاك) وكانت أحداثه تصور مراحل تنفيذ الحكم منذ الصباح الباكر حين تقتحم فرقة الإعدام غرفة السجين (سعيد أسعد مسعود) التى يتقمصها النجم الوسيم (حسين فهمي)، ثم يهبطون به السلم الحديدي الرهيب عبر الممر الطويل ذى الجدران الكالحة والذي تطل عليه عنابر وزنازين السجن والذي ينتهي عند مدخل غرفة الإعدام حيث يتدلى حبل المشنقة ويقف عشماوي منتظرا الأمر لتنفيذ القصاص العادل.
ورفض (حسين فهمي) وشاركناه الرفض أن يتم التصوير فى أحد زنازين جناح الإعدام، واخترنا زنزانة أخرى في نهاية الممر، وأن ظلت رائحة الموت تملأ أرجاء المكان، وأقبل جندي يحمل لفافة قدمها لمأمور السجن الذي ناولها بدوره لبطل الفيلم فاكتشفنا أنها البدلة الحمراء التى يرتديها أي مذنب ينتظر تنفيذ عقوبة الإعدام.
أمسك حسين فهمي بالبدلة بين يديه ثم أبعدها عنه مرة واحدة وكأنه كان يحمل جثة وقال صارخا: يا ساتر دي ريحتها موت، قال مأمور السجن فى هدوء: بلاش دي روح يا عسكري هات واحدة جديدة، بس تكون على مقاس الأستاذ حسين الذي بدأت تنتابه قشعريرة خوف كالتى تسري فى أوصال كل منا، وحينما ارتدى البدلة الأخرى التى أحضرها الجندي سأل: جديدة مش كده، فاجأب المأمور : لبسها قبلك واحد بس تم إعدامه الشهر الماضي، ولم يشعر أن إجابته كمسمار تم غرزه دون رحمة في قلب ممثلنا الوسيم الذي صاح ورفض التصوير، وبعد فترة تم تهدأته، ووافق على التصوير.
وعندما انتقلنا بالكاميرا إلى غرفة الشنق كانت قمة الأحداث وأزمة الأزمات حينما اكتشف حسين فهمي أنه حين يعلق حبل الإعدام في رقبته فلابد من أمرين، أولهما أن يلبس فوق رأسه طاقية سوداء تغطي عينيه، وثانيهما أن يقف فوق طبلية تفتح خلفيتها بذراع يجذبها عشماوي لكي يسقط جسد المذنب فى بئر حيث تنتهي حياته ويتم تنفيذ القصاص، وثار حسين فهمي ثورة هيستيرية ورفض أن يقف فوق الطبلية الخشبية، وباءت محاولاتنا معه بالفشل.
حاول معه عشماوي نفسه وقال له: انه لابد أن يحرك الذراع لكي تفتح الطبلية وهو بالطبع لن يحركه، فإذا بحسين فهمي يواجهه بمنطق فيه من الخوف قدر ما فيه من احتمال الصحة حين قال له: ومن أدراك أنك لن تندمج بحكم المهنة وتنسى أننا نصور فيلما سينمائيا وبحركة تلقائية تحرك الذراع فأجدني معلقا في هاوية الموت.
ورغم محاولات عشماوي لتوضيح الصورة إلا أنه لم يقتنع إلا بعد أن غطينا الطبلية بألواح من الخشب السميك حتى يطمئن حسين ويؤدي اللقطة الصعبة.
كتاب (أيام تليفزيونية) من أمتع الكتب التى يمكن أن تقرأها لنه مليئ بالحكايات الفنية والإنسانية الصادقة جدا.
…………………………………………………………………………………………..
فى الحلقة القادمة والأخيرة:
سر دموع صلاح السعدني، وماهى أجمل قصة حب عاشها يحيي العلمي.