بقلم : أحمد سعد الدين
(قد تمتلك جسدي لكن لا تمتلك عقلي وفكري)، قمة نجاح صانع الفن أن يتلقى المشاهد رسالته ويفهم ما بين سطورها خاصة عندما تكون غير مباشرة ، فقد استطاعت المؤلفة والمخرجة (كوثر بن هنية) أن تغزل قصه غنية وتحولها لفيلم بعنوان (الرجل الذى باع ضهره)، والتي استوحت روحها من أحد الفنانين التشكيليين فى بلجيكا (ويم ديلفوي)، الذى رسم لوحه على ظهر رجل سويسري يدعى (تيم شتاينر) وحوله إلى لوحة حيه أو سلعة تجوب المعارض الأوروبية، وقامت (بن هنية) بغزل تلك القصة مع معاناة اللاجئين السوريين وصعوبات الحياة التى يصادفونها ما يجعلهم عرضه للقبول بأى عمل حتى يضمنوا لقمة العيش، لكن فى نفس الوقت يصادفون الكثير من الصعاب، الفيلم لعب بطولته الفنان السورى المقيم فى كندا (يحيى مهايني) والنجمة الإيطالية الأصل (مونيكا بيلوتشي)، ومن تأليف وإخراج كوثر بن هنية.
يحكي الفيلم قصة شاب سورى (سام على) يحب فتاة ويحلم أن يتزوجها ومن فرط فرحته يعلن ذلك على الملاء داخل المواصلات العامة فى بلدته (الرقة) إحدى المدن السورية، وقال بأعلى صوت أريد التحرر من جميع القيود لأتزوج هذه الفتاة التى أحبها، بعدها بسويعات قليلة يجد نفسه مقبوض عليه ويتم استجوابه على أنه معارض سياسي ضد حكومة البلد، فيحمل رحاله إلى بيروت لعله يجد عملاً، وتتزوج حبيبته من رجل يعمل فى الحقل الدبلوماسي وتسافر معه إلى بلجيكا، فيصبح كل أمل هذا الشاب التعيس أن يهاجر إلى أوروبا كي يكون قريب من حبيبته، وأثناء وجوده فى بيروت يتردد على معارض الفن التشكيلي ليشاهد الرسومات العالمية وأيضاً يفوز بكأس من الشراب مجاني، ويلتقطه أحد كبار الفنانين التشكيليين فى أوروبا ويعرض عليه أن يستأجر ظهره كي يرسم عليه إحدى لوحاته ويعرضها فى أكبر معارض أوروبا، فيوافق ويذهب معه كي يشاهد الجمهور الأوروبي لوحة تحمل شكل (تأشيرة دخول الإتحاد الأوروبي) على ظهر هذا الشاب، وتتصاعد الأحداث التى تخلط بين الفن والسياسة والحياة الإجتماعية، هذه القصة البسيطة التى طرحتها المؤلفة والمخرجة التونسية (كوثر بن هنية) فى أكثر من مائة دقيقة على الشاشة، استطاع البطل (يحيى مهايني) أن يجسد شخصية (سام علي) الشخصية الرئيسية داخل السيناريو ببراعة حيث امتلك خيوط الشخصية وتطوراتها من لحظات الإنكسار إلى لحظات الحب والعواطف الجياشة وكان أدائه مؤثراً، فى المقابل كانت (مونيكا بيلوتشي) فى أقل حالاتها الفنية لكنها أدت ما هو مطلوب، واستطاعت المخرجة توظيف جميع أدواتها من تصوير وإضاءة ومونتاج وموسيقى تصويرية لصالح العمل، ورغم الحالة الفنية الجيدة إلا أن السياسة كانت متواجدة طوال أحداث الفيلم بل طغت على العناصر الفنية فى بعض الأحيان.
الخط الدرامي الرئيسي يناقش فكرة الغرب المتقدم الذى ينادي بحقوق الإنسان وفى نفس يستغل إحتياج إنسان من لحم ودم ويحوله إلى لوحة عرض فى المزادات، حيث يستغرب الجمهور من جمال هذه اللوحة المرسومة على ظهر رجل ويناقش جمال الرسمه وبراعة الفنان الذى ابتكرها، لكنه فى الوقت نفسه يتغاضى عن التفكير ويغض البصر تماماً عن صاحب (الضهر) المرسوم عليه اللوحة ولا ينتفض لحقوقه الحياتية التى تتغزل بها الحكومات الغربية ليل نهار، فرغم موافقة الشاب اليائس على تأجير ظهره للرسم عليه إلا أن المؤلفة استطاعت أن تمرر سؤال فلسفي وجودى من خلاله، فاللوحة الرائعة المطبوعة على ظهر الشاب من إبداع فنان مشهور يمتلك حقوقها الفكرية، لكن من يمتلك عقل وفكر هذا الشاب؟، وماذا لو أراد أحد الأثرياء شرائها؟.
الخط الدرامي الثاني يكمن فى فكرة الصراع بين عالمي الثراء والفقر حول العالم بما يمثله كل عالم من ثراء مقابل فقر فى الطرف الآخر وعلم مقابل جهل ومن أفكار رومانسية مقابل واقع مرير يرغم أهله على القبول بأى شيء مقابل البقاء فقط على قيد الحياة ،هذين العالمين قد يتلاقيا في نقطة، لكن هدف كلاً منها يختلف تماماً عن الآخر، وهو ما يجعل العالم الفقير ينظر لعالم الأثرياء على أنهم يستغلونهم دائماً، ويحاولون الاستفادة من وجودهم وليس تطوير حياتهم، فرغم أن الفنان العالمي معارض لسياسات مجتمعه إلا أنه عندما أراد إيصال رسالته استقطب أحد المهمشين الذى يبحث عن أى شيئ للحياة ليكون هو الوسيلة التى تحمل تلك الرسالة التى يراها الفنان سامية.
وقد استطاعت المخرجة والمؤلفة أن تغزل فكرتها بخط درامي آخر موجود فى الواقع العربي وهى قضية الحريات فى منطقة الشرق الأوسط فى سوريا تحديداً، حيث أن الشاب (سام علي) لم يرتكب جرماً حين أعلن عن حبه للحرية وأمنيته فى الزواج من حبيبته، لكنه وجد نفسه مقبوض عليه وهو ما يعنى أن الحكومات العربية تجند بعضاً من شعوبها للإبلاغ عن البعض الآخر حتى وإن كانت القضية شخصية فمن الممكن أن ترقى لقضية أمن دولة بما يتماشى مع رؤية النظام السائد فى تلك البلد، وهو ما جعل كثيراً من السوريين يخرجون من بلادهم أملاً فى لقمة عيش وعيشه كريمة، لكنهم وقعوا فريسه للغرب الذى يتباهى بأنه يساعدهم، لكنه يعلن رفضه لاستقبال هؤلاء اللاجئين علناً، ولا تلتفت الحكومة السورية لهؤلاء المهمشين إلا عندما يفتضح أمرها بوجود أحد شبابها الذى أجر ظهره كلوحة للفرجة فتحاول إنقاذ ماء وجهها لكن هيهات.
النهاية جاءت معبرة عن حالة هذا الشاب الذى بدأ بالإعلان عن حبه ولاقى ما لاقى من صعوبات وتعامل كأنه لوحة وليس إنسان حتى لو كان برضاه فى البداية، إلا أنه أفاق من كل ذلك فى النهاية عن طريق الحب الذى أعاد له إنسانيته مرة أخرى، فما أن عرف بطلاق حبيبته من زوجها الدبلوماسي وجاءته حتى وقف ليفكر فى حياته وكأنه أفاق من غفوته، فترك الشهرة والمال الذى تعاقد عليهم فى بداية رحلته إلى المجهول، وفكر فى قلبه الذى خفق من جديد، فى رسالة مفادها أن الحب يصنع المستحيل رغم قسوة الحياة ، لذلك عاد مرة أخرى إلى بلده (الرقة) التى بدأ منها وكأن دائرة حياته أغلقت وستبدأ من جديد، وهى النهاية الحقيقية للفيلم لكن المخرجة أرادت أن تتماشى مع النغمة السائدة فأضافت مشهدين أخريين ظهر من خلالهم جماعة داعش الإرهابية ومطاردتهم له واختفائه عن الأنظار وكأنها تغازل جهات التمويل للفيلم والتى تشترط اظهار تلك الجماعات وغيرها على الشاشة، وقد نال الفيلم جائزتين من مهرجان فينسيا، ومؤخراً فاز فى الدورة الرابعة بجائزة بنجمة الجونة لأفضل فيلم عربي روائي طويل.