سلوا قلبي أم سلوا شوقي؟
بقلم الدكتور: ثروت الخرباوي
فلنعد بالزمن إلى الوراء، فالزمن لا يعود بنا ولكننا الذين نعود إليه، فإذا عدنا سنكون في عام 1946، أما المكان فهو حديقة الأزبكية بالقاهرة، والمساء قد أرخى سدوله، والجمهور في قاعة حديقة الأزبكية ينتظر أن تخرج إليه السيدة أم كلثوم، ففي هذا اليوم ستغني (الست) أغنية من شوامخ الشعر العربي، كاتبها هو أمير الشعراء أحمد شوقي، والأغنية هى (سلوا قلبي غداة سلا وتابا) كلمات الأغنية صعبة نوعا ما، ولكن منظم الحفل طبع كلمات الأغنية ووزعها على الجمهور، مع شرح بسيط لكلماتها، ومع أن الأغنية تبدأ بأبيات تظنها من أبيات الغزل، إلا أنها في الحقيقة من قصائد المديح النبوي، والقصيدة نفسها من روائع شوقي، حتى أن البعض يعدها من أعظم قصائده.
وخرجت أم كلثوم للغناء، وصفق الجمهور، واللحن الشجي الذي أبدعه رياض السنباطي بدأ يداعب القلوب، ويسيطر على المشاعر، وانطلقت أم كلثوم في الغناء، ويا سلام يا ست وصوتك يصدح بالبداية: (سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا)، وتستمر أم كلثوم في الغناء إلى أن تقول: (وكان بيانه للهدى سُبْلا وكانت خيله للحق غابا)، وهنا يضج الجمهور بالتصفيق! يا ربي ما هذا؟!، هل تعرفون المعنى الذي جاء في هذا البيت؟!، هل كان الجمهور الكبير الذي صفق وهلل يعلم معاني تلك الكلمات؟!.
ياللداهية السوداء التي هى أسود من قرن الخروب، الجزء الأخير من البيت يقول إن جيوش النبي عليه الصلاة والسلام كانت تسير في طريق الحق بوحشية شديدة، (كانت خيله للحق غابا)، تعني أن جيوشه كانت كثيرة وأعداد الجنود فيها كثيرة ولكنها أيضا كانت متوحشة!، والجمهور البسيط الذي لا علاقة له وقتها بالسلفية ولا الوهابية ينتشي طربا وفرحا! وليكن، كانت تلك هى مشاعرهم، فتلك الأمة في هذا الوقت كانت مغلوبة على أمرها، كنا نرزح تحت الاحتلال، ونشتاق إلى أيام كنا فيها نمتلك أسباب القوة، لكن أيها الناس الكلام هنا عن الدين، وعن رسول هذه الأمة، كيف يا أمير الشعراء تصيغ أبياتا تتحدث عن أن قوة جيش النبي كانت متوحشة؟!، وكيف غاب هذا المعنى عن أم كلثوم والسنباطي.
ومع ذلك انتظر أيها القارىء قليلا، لأننا سنعود للاستماع إلى أم كلثوم في هذا القصيدة، فحين دخلت (الست) على البيت الذي يليه قالت : (وعلمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابا) فإذا بتهليل الجمهور يزداد، الست تقول إن النبي علم الأمة كيف تبني مجدها، فتعلمت الأمة ما أخذته من النبي فسيطرت على العالم بالاغتصاب، بالقوة، بالجيش المتوحش، وكأن هذه كانت تعليمات نبي الرحمة والسلام!!، وكأنه علَّم المسلمين أن يأخذوا ريادة العالم بالقوة والاغتصاب، لا بالعلم والرحمة والسلام والحضارة ، ورب الكعبة كان هذا البيت أكبر إهانة من الممكن أن يتم توجيهها لنبي الرحمة.
ومع ذلك ليس المهم هنا هو تلك الكلمات التي تقول إننا أخذنا إمرة الأرض اغتصابا، فهذا التوصيف من شوقي صحيح، نعم نحن غزونا العالم، ورفعنا السيف، وقطعنا الرؤوس، وافتخرنا بذلك نثرا وشعرا، ولكن هل هذا كان دينا، أم أنه كان من أمور الدنيا؟!، هو دنيا بلاشك، مثلنا مثل باقي الأمم التي أخذت بأسباب القوة، لم يكن دين الأمم هو السبب، ولكنها الرغبة في الاستحواذ والسيطرة والحصول على ثروات العالم، أقول هذا لأضع فارقا بين الدين والتدين، الدين لم يأمر بهذا، أي دين في العالم، ليس الإسلام فحسب، كل الأديان قاطبة تنهى عن هذا السلوك، والقرآن يا أمير الشعراء، ويا كوكب الشرق يحضنا على تهذيب السلوك، فيقول (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) من أجل التعارف أيها الناس الذي يولِّد الإخاء والتعاون، لا الاعتداء والاغتصاب، نهانا الله أن نعتدي فقال (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
هذا هو الدين، ولكن ممالك المسلمين أطلقت على نفسها الخلافة سارت في طريق آخر، واستخدمت الإسلام ليكون مبررا لها في قطع الرؤوس، والإسلام لا يعرف إلا تعمير الأرض (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، لذلك لا تتعجب مما تفعله جماعات الإسلام السياسي حاليا، ولا تتوقف كثيرا عند قطعهم رقاب العباد، فقد كانت فكرة (إسلام السيف) هى الفكرة التي سيطرت على الأمة مئات السنين، وكانت الخلافة عند الأمم السابقة فريضة من فرائض الدين، والخليفة هو المتحدث الرسمي باسم الله رب العالمين.
وتعالى معي لنقرأ ما حدث للشيخ علي عبد الرازق عندما كتب (الإسلام وأصول الحكم)، وقتها تم تكفير الرجل لأنه أنكر أن الخلافة من الدين، وطرده الأزهر من طائفة العلماء، وسحبوا منه شهادة العالمية، وتم تجريس الرجل وفضحه وكأنه أشد أعداء الإسلام، ولك أن تقرأ معي قصائد شوقي التي كان يمجد فيها في الخليفة العثماني، والخلافة، وكم بكى شوقي انتهاء الخلافة العثمانية، وبكى معه معظم الشعب المصري وقتها، إقرأ معي ما كتبه شوقي وهو يرثي الخلافة:( ضَجَّت عليكِ مآذِنٌ ومَنابِرٌ وبكت عليكِ ممالكٌ ونَواحٍ الهِندُ والِهةٌ ومِصرُ حزينةٌ تَبكي عليكِ بمدمعِ سحاحِ والشَّامُ تَسأَلُ والعِراقُ وفارسٌ أَمَحى من الأَرضِ الخِلافةَ ماحٍ وأتت لكِ الجُمعُ الجلائلُ مَأتَم فقعدنَ فيه مقاعدَ الأَنواحِ ياللرِّجالِ لَحُرَّةٌ موؤودَةٌ قُتلت بِغير جَريرةٍ وجناحِ).
وإذا أردت أن تقرأ من كتب التاريخ وقع هذه القصيدة على الشعب المصري حينما تم نشرها في الصفحة الأولى بجريدة الأهرام، فستعرف أن (حسن البنا) حينما أنشأ جماعته بعد انتهاء الخلافة بأربع سنوات لم يهبط إلينا من المريخ، ولكنه كان يعبر عن تيار واسع الانتشار بين عموم المسلمين، مثقفهم وجاهلهم، كل ما في الأمر أنه جعل من هذا التيار تنظيما، واحتكر التنظيم لنفسه، واعتبر أن جماعته هى الممثلة الشرعية للخلافة التي انتهت.
ولا زالت جماعات الإسلام السياسي تنهل من نفس المعين، ولا تزال الجرائم ترتكب باسم الإسلام الذي قال عنه شوقي: إن النبي علمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابا، وأن جيش النبي كان جيشا متوحشا، ولا تزال تلك المفاهيم هى السائدة في المدرسة الدينة الحالية، حتى أن أحد رؤوس تلك المدرسة الدينية افتخر بأننا في يوم ما كنا نضع قدما في الأندلس وقدما في الصين، وكأن اغتصاب الأرض مفخرة لديننا، ولم نتحرك لنحرر الإسلام من تلك المفاهيم المغلوطة اللهم إلا من خلال بيانات الشحب، دون أن نعيد قراءة الإسلام بشكل يختلف عن القراءة العربية الأولى له، ولا زلنا إلى الآن نصيح ونهلل طربا ونحن نستمع للست وهى تغني: وعلمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابا.. الله يا ست!.