عصا المصريين (11) .. حقيقة يوليو
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
فى نهاية رصدنا لتاريخ السخرية عند المصريين ، لابد و أن نتوقف قليلا ، و نجمع شتات المشهد بعد أن اختفت النكتة و اختفت الضحكة بفعل مجموعة من الدببة تكاد تقتل صاحبها و تصر على تأميم كل شيئ ، و أن تحتكر جهة واحدة كلا من الإعلام و الصحافة و الميديا ، متجاهلين أن التنوع هو سمة الحياة منذ خلقها الله و إلى يوم يبعثون ، و لكنهم يودون خلق نظام يشبه نظام يوليو فى الإعلام و التوجهات و الصوت المنفرد ، و برغم أن الزمن اختلف ، و العالم أصبح سماء مفتوحة إلا أنهم مصرين على تكرار ذلك النموذج ، و لكن للأسف هو نموذج لا يعرفونه حق المعرفة و لم يدرسوه جيدا ، بل ينفذون منه القشور و يصرون على استنساخ أخطائه فقط . فعدمنا الصحافة المعارضة ، و عدمنا البرامج المختلفة المتنافسة ، و عدمنا النقد السياسي ، و عدمنا السخرية.
و إذا كنا نقول أن السادة المسئولين لا يعرفون نظام يوليو حق المعرفة ، لانه اختلطت فيه الحقائق بالشائعات ، فدعونا نتعرف عليه مادمتم مصرين على تكراره ، و لنبدأ بصحافة يوليو ونرى مدى تنوعها داخل الإطار الواحد : ففى الوقت الذى كانت فيه ( الأهرام ) الجريدة شبه الرسمية للنظام ، إلا أنها فتحت صفحاتها لكل التيارات بداية من أقصى اليمين ( ثروت أباظة مثلا ) الى أقصى اليسار ( لطفى الخولى ) ، بل زاد الأمر إلى أن الأهرام كانت تصدر مجلة ( الطليعة ) التى كانت لسان حال اليسار ، و مجلة السياسة الدولية التى كانت تعبر عن اليمين ، و على الضفة الأخرى كانت جريدة الأخبار التى تناوب على رئاستها أقصى اليمين و أقصى اليسار ، و فى ظل جريدة الجمهورية كانت تصدر جريدة المساء تعبر عن اليسار ثقافيا و أدبيا.
و هل عدم نظام يوليو الابتسامة ؟ بالطبع لا ، ففى مجلة صباح الخير اجتمعت اكبر كتيبة من رسامى الكاريكاتير ، و سمحت لهم بهامش من الحرية ( و لمن لا يصدق فليراجع رسوم صلاح جاهين و الليثى و بهجت و حجازى ) ، و بجوارها كانت روزاليوسف المشاغبة فى وقار ، و فى معظم أوقاتها كانت معقلا لليسار أيضا.
و حتى فى الفن الذى كان 90% منه قطاع عام ، تراوح النظام مابين الاهتمام بالكيف و الفنون الرفيعة ممثلة فى وزير ثقافتها ثروت عكاشة ، و مابين الاهتمام بالكم و فنون التسلية ممثلة فى وزير اعلامها عبد القادر حاتم . و تراوح النظام بين الاتجاهين بشهادة الدكتور ثروت عكاشة بنفسه فى مذكراته.
كما سمح النظام ببعض الاعمال الناقدة له – و القائمة طويلة فى المسرح و السينما – حتى قبل النكسة مثل مسرحية ( الفتى مهران ) للكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى التى كانت ضد دخول مصر حرب اليمن . و تعددت الأعمال بعد النكسة فى السينما و المسرح ، و لن أذكر المثال الشهير ( فيلم شيئ من الخوف ) بل سأذكر مسرحية انتجتها الدولة فى المسرح الغنائى احتفالا بألفية القاهرة عام 1968، و أقرأوا مشهد الختام فى مسرحية ( القاهرة فى ألف ) عام للكاتب الكبير عبد الرحمن شوقى ، حيث ينتقد عبد الناصر شخصيا.
و لعل السبب الرئيسى فى هذا التنوع أن نظام يوليو قام على صيغة ( التحالف ) ، أى إجماع الفرقاء على أهداف محددة ، مع احتفاظ الجميع بحق الاختلاف داخل الإطار الواحد ، و أحيل المتشككين فى هذا الرأى لمناقشات المؤتمر القومى للقوى الوطنية و الذى صدر عنه الميثاق و يرى مناقشات اللجان التى شارك فيها مشايخ و ماركسيين و عمال و فلاحين و أساتذة جامعات و فنانين.
أما قضية السخرية فلقد تساهل نظام يوليو معها ، و كانت النكات مصدر تقارير اتجاهات الرأى العام ، بل إن هذا النظام استخدمها لخدمة أغراضه . و لعلى لا أذيع سرا – فهذا أمر معروف للكافة – أن النظام الناصرى عندما أقدم على إنتاج أفلام دعائية تروج للعهد الجديد ، لجأ إلى أيقونة الكوميديا وقتها : اسماعيل ياسين ليقوم ببطولة السلسلة الشهيرة ( إسماعيل ياسين فى (…..) ليقدم الجيش و البحرية و الطيران و البوليس و البوليس الحربى و المطافئ فى ثوبها الجديد بعد الثورة . لم يخش النظام أن يجعل الصورة ضاحكة لتقبلها الجماهير ، و لم يخش الجيش على صورته أن يتناولها ( مضحكاتى ).
فهل ندرس ذلك النموذج بدقة قبل أن نقلده فى الأخطاء فقط ؟!.