رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصا المصريين  (10) .. قبل الــ 100 وش

بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد

لعل الجميع قد لاحظ فى أعمال رمضان الماضى عدم نجاح أى مسلسل مصنف على أنه مسلسل  كوميدى ، و لعلنا لاحظنا أيضا قلة الأفلام الكوميدية المطروحة نسبة الى حجم الإنتاج  فى السنوات السابقة ، حتى عدد البرامج الكوميدية  قد تراجع أيضا ، و فشل معظمها بسبب السقف المنخفض للنقد . حتى النكات قد تضاءل أمر تداولها – بعد أن كانت مؤشرا هاما و بندا ثابتا فى تقارير اتجاهات الرأى العام و توجهات الجماهير – و كادت أن تختفى الضحكة أيضا ،  و المتنفس الذى أضيف الى عصا المصريين فى السوشيال ميديا ( الكوميكس ) قد تراجع بشدة .. و ابتعد عن الموضوعات الساخنة التى تهم الجماهير بعد القبض على أحد رسامى الكاريكاتير ، و تلك كلها مؤشرات توجب الانتباه و الحذر ، و تدعو الى التساؤل و الدراسة .

لا ننكر أن للجائحة اثرها على قابلية السخرية ، و لا ننكر أن ماخلقته تلك الجائحة من آثار اقتصادية قد قلص من الرغبة فى السخرية ، و انشغل الناس بأمر غير مفهوم و مرض غامض لا ملامح له و تناقضت الآراء حوله ، فهل أدت الجائحة الى خلق مجتمع من الملائكة العابدين الزاهدين الراضين ؟

جميع المؤشرات تقول العكس ، فقد انتشرت حالة من التربص بين المواطنين ، و زادت وتيرة المشاجرات لأتفه الاسباب و أصبح ( الاحتقان ) سمة حياتنا اليومية ، فلماذا ؟

أعتقد أن السبب يكمن فى أننا نعيش فى تناقض شديد ، نفاجأ كل صباح بالأمر و عكسه ، و القرارات تضرب بعضها بعضا و تجعلنا طوال الوقت على صفيح ساخن ، فمثلا نطالع قرارات قضائية بالقبض على متحررات ( التيك توك ) حماية لأخلاق المجتمع ، بينما أكبر جهة تشريعية و رقابية  تدافع عن أكثر متجاوز فى تاريخ المجتمع و تحميه بحيث يستمر فى شتائمه التى طالت الجميع ، و فى نفس الوقت تنتشر البرامج الكروية بما فيها من مشاحنات و تراشق لفظى دون رادع ، فى حين يتم التحقيق مع مذيعات لمجرد هفوات صغيرة . نحاكم بعض المجتهدين بتهمة ازدراء الأديان ، بينما يقوم أحد المشايخ ( المودرن ) بازدراء كل مفاهيم الدين  و يخالف كل مقاصد الشريعة ، و تحتل أخبار الزيجات المتعددة لأحد الدعاة الجدد كل الصحف . و إذا مددنا الأمر على استقامته الى عالم السياسة سنجد آلاف المشروعات تقوم بها الحكومة و لكننا لا نحس بأثرها على حياتنا اليومية ، و مئات القرارات من أجل تسهيل حياتنا ثم تعقبها قرارات تزيد من ضغوط الحياة ، فكانت النتيجة أنه بدلا من استخدام السخرية ( عصا المصريين ) التى قد تعرض صاحبها للحساب ، لجأ البعض إلى مشاهدة قنوات الاخوان و برامجهم على اليوتيوب ، ليس اقتناعا بما يقال فيها و لكن كنوع من الانتقام الصامت من متاعب الحياة و اختفاء الضحكة التى تهونها عليهم ، بعد أن تعاونت أجهزة كثيرة على قتلها ، حتى شاهدنا مؤخرا أحد المسئولين يضفى قداسة على الإذاعة و يتوعد بمحاكمة شاب لمجرد الانتقاد الساخر لطريقة نطق بعض المذيعين ( يبدو أن التهمة هى ازدراء مذيعين )  و لا يدرى السيد المسئول أنه بهذا يزيد نزعة التطرف عند البعض و يؤججها و كأنه مندوب طالبان فى حكومتنا الرشيدة ، و الأدهى أنه يعرض حياة ذلك الشاب للخطر .

و إذا كان بعض مسئولينا عن الإعلام بهذا المستوى و هدفهم ( ركوب الترند ) فمن الطبيعى ألا يلتفتوا لمهامهم الأصلية و واجباتهم الوظيفية و كان الأولى بهم أن ينزعجوا من نسبة مشاهدة برامح اليوتيوب الإخوانية ، و أن يقلقهم أن التالى فى نسبة المشاهدة برنامج لمذيع مصرى على قناة عربية و ليس على قنواتنا المصرية !! و أن يحقق هذا المذيع انفرادات و يذيع أسرارا و خفايا كان التليفزيون المحلى أولى بها .

و لعل ما كان واجبا أيضا أن يلفت نظرهم و بشدة  و يقلق مضاجعهم – لو كانوا مهتمين بالفعل لأمر هذا البلد – أن الأعلى نجاحا فى مسلسلات العام الماضى بعد الاختيار هو مسلسل ب 100 وش .

الحقيقة أننا يجب أن نقف طويلا أمام نجاح ذلك المسلسل و ننظر له نظرة فاحصة و نعيد حساباتنا و بسرعة بناء على نجاحه ، ، لقد اختطفت عصابة خفيفة الدم تقوم بالنصب قلوب الناس ، و ارتبطوا بها ، حتى أنهم كتبوا على مواقع التواصل يطالبون الشركة المنتجة بعدم القبض على أفرادها فى نهاية الحلقات !! و لا يمكن أن ننكر أن الجزء الأكبر من حب الناس للمسلسل و لأفراد العصابة يرجع لجهود صانعيه : كتابة و تمثيلا و إخراجا و إنتاجا ، و لكن ألا يلفت النظر محبة المشاهدين المفرطة لمجموعة خارجة على القانون برغم انهم ( مجرمين لأهداف شخصية ).

 فيما سبق كانت الأفلام و المسلسلات تحشد مئات الأسباب لتبرر لصوصية البطل لكى يتعاطف معه المشاهد ، فهو إما أن يسرق لانقاذ حياة من يحب ( لعلاج أمه أو ابنه مثلا ) ، أو يسرق لاستعادة حق منهوب ، أو يسرق من سارق ( رجل أعمال فاسد مثلا ) لإقامة العدل المجتمعى و لكننا هذه المرة أمام سرقات متعددة ليس الهدف من ورائها سوى الثراء الفردى ، و ليس العدل المجتمعى فلا هم أبطال مثل ( روبن هود أو أرسين لوبين ) يسرقون من إجل اقامة العدل و إعادة الحقوق المنهوبة لأصحابها !! و مع ذلك يقع فى غرامهم المشاهدون ، فأين الحس الأخلاقى المصرى الشهير ؟.

أعتقد أن الدلالة الأولى لذلك النجاح أن الناس فى دخيلة نفسها تود التمرد و الخروج على القانون و لكنها تدرك تبعاته و ما يترتب عليه ، و بما أن تقديم المسلسل تم فى إطار من خفة الدم و السخرية المبطنة فقد عبر عن أمنية المشاهدين فى كسر الإطار الذى يعيشون فيه دون أن يسبب ذلك جرحا للضمير أو خدشا للأخلاقيات أو خوفا على الوطن . و زاد نجاح المسلسل لأنه لم يعرفنا على ضحايا النصب أو يجعلنا نتعاطف معهم . فبات الجميع يرى في العصابة أبطالا استطاعوا الخروج ( عن الصف ).

و بناء عليه أظن – و ليس كل الظن إثم – أن على مسئولى منظومة الإعلام إعادة النظر فيها كاملة ، و العودة إلى نظام التعدد فى الأصوات بإلغاء الإحتكار فى الإنتاج الدرامى و البرامجى ، و فى ملكية القنوات التليفزيونية ، فالتنافس قادر على خلق مستوى أفضل و محتوى أقوى يقطع الطريق على كل القنوات المشبوهة و المغرضة ، و إاحة فرص أكبر و مساحة أوسع و رفع سقف استخدام عصا المصريين ، فالسخرية صمام أمن و أمان – و حتى لو حدثت تجاوزات فى البداية – و وسيلة لفهم الشارع و دليل على ما يتحرك داخل نفوس المواطنين بدلا من التقارير البوليسية التى يهمها أن تظهر أن ( كل شيئ تمام ) .

علينا أن نفتح كل النوافذ و نترك الأمر لوعى المواطنين لفرز الجيد من الرديئ و الصحيح من الفاسد ، و لنا فى الإقبال على مسلسل الاختيار دليل على جودة هذا الوعى ، و يجعلنا مطمئنين له .

هذا  و إلا تحولنا جميعا لمجتمع بـ 100 وش .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.