ماذا كتب نجيب محفوظ عن الإخوان؟!
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت من أديب مصر نجيب محفوظ، والزمن كان من زمن حيث يدور بنا ولا ندور به، ومحفوظ كان شابًا، ولمن لا يعرف فإن محفوظ مات شابًا وهو في الرابعة والتسعين!، أما الكلمة فكانت روايته المجيدة “كفاح طيبة” التي كتبها وهو مقبل على الثلاثين، وبعد أكثر من ستين عامًا من هذه الرواية مات محفوظ وهو في الرابعة والتسعين، وحين مات رثته الدنيا كلها، وسارت مصر في جنازته، ولكنه عند البدء لم يحتفل به أحد، اللهم إلا واحد من النقاد كان اسمه “سيد قطب”، كان قطب في بدايته ناقدًا لا علاقة له بالإخوان من قريب أو بعيد، بل إنه كان يرى حسن البنا دجالاً يخدع الصبيان! وأنه يسير على طريق فرقة الحشاشين، وبعد أن قرأ قطب رواية “كفاح طيبة” كتب مقالًا أشاد فيه بالكاتب والكتاب، حيث قال “أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة فتغلبني حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها! هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه”.
ثم قال: “إنه يعيد إلينا حقيقة الانتماء لمصر ذات الحضارة والتاريخ”، وقال أيضًا في مقاله: “لو كان الأمر بيدي لأمرت بطباعة هذه الرواية على نفقة الدولة وتوزيعها على كل المصريين كبارا وصغارا، شبابا وشيوخا، ولجعلتها في كل يد”، ومن هذا المقال انتبه الناس لنجيب محفوظ، وأخذ اسمه يتردد في الأوساط الأدبية، إلا أن سيد قطب لم يتركه فقد كتب عنه وعن رواياته أكثر من مرة، بل إنه صب جام غضبه على النقاد الذين لم ينتبهوا إلى إحدى روايات محفوظ، وقال إنه تأخذنا إلى أدب قومي حقيقي بعيد عن الشوائب الأجنبية، أدب يرتفع بالإنسانية، وفي ذات الوقت يساير نظيره في الآداب الغربية، وشيئًا فشيئًا أخذ محفوظ مكانته بالتدريج إلى أن وصل للقمة، ليس القمة في مصر، ولكن القمة في العالم كله حينما حصل على نوبل.
ويبدو أن شخصية سيد قطب تركت أثرها لدى نجيب محفوظ، ليست شخصيته كناقد أو أديب، ولكن شخصيته بعد أن تحول من النقيض إلى النقيض وأصبح إخوانيًا ومُنظرًا لفكر شديد التطرف، يصم المجتمع بالجاهلية، ويتهم الجميع بمعاداة الإسلام، ترجم محفوظ هذه الشخصية بضيق أفقها وتطرفها في رواية “المرايا” ووضعها في شخص سماه “عبدالوهاب إسماعيل” جعله أديبا وشاعرا ثم إذا به يصبح متطرفًا لدرجة تكفير المجتمع، كانت شخصية عبدالوهاب إسماعيل قريبة الشبه من شخصية سيد قطب، وكانت تحولاته وكأنها تحولات قطب، رصدها لنا محفوظ في “المرايا” التي رصد فيها عشرات الشخصيات وأبدع تصويرها، إلا أنني أظن أن جانبًا من هذه الشخصية كان يقارب شخصية “عبد الفتاح إسماعيل” الذي كان شريكا لقطب في قضية 1965 والذي تم تنفيذ حكم الإعدام فيه مع قطب ولكنه لم ينل نفس الشهرة وإن كان يقاسمه في نفس الأفكار، وأظن أن محفوظ الذي كتب المرايا عام 1971 استمد اسم هذه الشخصية من عبدالفتاح إسماعيل، فكان عبدالوهاب إسماعيل أحد أبطال الرواية.
لم يكتب محفوظ عن سيد قطب “الإخواني” من فراغ بل إنه اختلط به واستمع إليه وأدرك تحولاته وأسبابها النفسية، وأستطيع أن أعطي الريادة لمحفوظ في تحليل الشخصية المتطرفة ذات النوازع الإرهابية، لأنه أرجع الأمر لعلة نفسية تصيب صاحبها فتجعله ذاتيًا متوهمًا نبوغه وانحطاط الآخرين، تسيطر عليه أوهام القداسة، فيشعر بالاستعلاء على الآخرين، وقد كانت هذه هي مدرسة الإخوان النفسية، مدرسة تقوم على الاستعلاء تحت تأثير اعتقاد بأنهم هم وحدهم أهل الحق وغيرهم هم أهل الباطل، وأن الحق يجب أن يستعلي على الباطل، وتلك آفة نفسية رصدها محفوظ ببراعة الطبيب النفسي وهو يحلل لنا في المرايا شخصية عبدالوهاب إسماعيل، أو قل شخصية سيد قطب ممتزجا بصديقه عبدالفتاح إسماعيل، وقد كان قطب أو “عبدالوهاب إسماعيل” في المرايا هو النموذج الفريد لشخصه واحد من الإخوان تكرر كثيرًا وشاهدناه عيانًا بيانًا عندما وصل الإخوان للحكم.
وكما قلت كان محفوظ يعرف قطب معرفة وثيقة، وفي ذلك يقول في مذكراته عنه بعد أن تحول للإخوان: “ذهبت إليه رغم معرفتى بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه لى من متاعب أمنية، فى تلك الزيارة تحدثنا عن الأدب ومشاكله ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة، كانت المرة الأولى التى ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذى طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامى إنسانًا آخر حاد الفكر متطرف الرأي، ويرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقًا من فكرة “الحاكمية” وسمعت منه آراءه دون الدخول معه فى جدل أو نقاش حولها، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب”.
ثمة رواية أخرى تعرض فيها محفوظ لشخصية إخوانية، هي رواية “الباقي من الزمن ساعة” وهذه الرواية تدور حول “حامد برهان” وزوجته، حيث حلوان ذلك الحي الذي كان في يوم من أيام مصر منتجعًا صحيًا، والذي سكن فيه سيد قطب، وروى لنا محفوظ في روايته عن محمد ابن حامد برهان الذي كان شابًا عاديًا ثم انخرط في جماعة الإخوان قبل ثورة يوليو، وكيف تغيرت حياته وكأن الانخراط مع جماعة أو جمعية ترفع شعارات الدين تفرض على المنتمين إليها أن يسلكوا طريقًا مختلفًا عن باقي المتدينين، وفي هذه الرواية اعتبر محمد حامد برهان أن الثورة هي ابنة الإخوان، بل هي صنيعتهم، فتحمس لها وتحمس لرجالها، لا بحسب أنها تقدم لمصر شيئًا مختلفًا يواكب العالم، ولكن فقط لأنه ظن أنها ثورة إخوانية! ثم عندما أيقن أن الثورة تسير في طريق يختلف عن طريق الإخوان ركن إلى السلبية، وكأنه تلقى ضربة كونية أفقدته اتزانه ودعته إلى تلك السلبية، فيصير بذلك عبئًا على مجتمعه لا فاعلا فيه.
وفي روايات محفوظ تجد شخصيات إخوانية صريحة، إلا أنه لم يعبر عن انتمائها التنظيمي واكتفى بالتعبير عن توجهها، ففي رواية “القاهرة الجديدة” التي تحولت إلى فيلم تحت عنوان “القاهرة 30” يضع محفوظ شخصية الوصولي “محجوب عبدالدايم” والشيوعي الذي يؤمن بالماركسية “علي طه” والصحفي أحمد بدير، كل هؤلاء بجوار شخصية الإخواني “مأمون رضوان” الذي يقول: “إن الله في السماء وقد أنزل دينه الإسلام على الأرض لكي يحكم كل الناس، هذه هي مبادئي” فيرد عليه الشيوعي قائلًا :”إنني أعجب أن تؤمن بهذه الأساطير”، وفي ذات الوقت كان محفوظ حريصًا على ألا يطلق على مأمون رضوان صفة الإخوانية بشكل صريح ولكنه وضع له الصفات المؤهلة لإخوانيته، إذ أنه جعله رافعًا لشعارات الجماعة، فهو ينكر كل الأحزاب، ولا يعترف بقضية مصر الكبرى وقتها وهي “الجلاء التام أو الموت الزؤام”.
وفي رائعة محفوظ ودرة أعماله “الثلاثية” يرصد محفوظ تطور حياة السيد أحمد عبدالجواد، وأحفاده، فيصبح واحدا منهم وهو “عبدالمنعم” إخواني يطلق لحيته ويشارك في أعمال الإخوان ويدمن قراءة الكتب الدينية، في الوقت الذي يكون فيه شقيقه أحمد شيوعيًا، بما يعكس حالة انقسام حادة داخل الأسرة المصرية، وقد أصابت حالة الانقسام هذه مجتمعنا في الفترة الأخيرة وخاصة بعد ثورة يناير ووصول الإخوان للحكم، وإن كانت انقسامات شخصيات محفوظ هينة لينة لا تتعدى المناقشات والحوارات، وهي بالقطع غير انقساماتنا التي أصبحت تنتهي بالقنابل والرصاص والخناجر!.
أما المقدمة التي أدت لهذا التعاظم في الانقسام فقد لمسها محفوظ في الثلاثية حينما ترجم التعاليم الدينية التي كان عبدالمنعم يتلقاها من شيخه الإخواني الذي كان يبصم على شخصيته بكلمات حسن البنا التي يقول فيها :”تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة، تنظيم شئون الناس في الدنيا والآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية الروحية أو العبادة دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف” يضع محفوظ هذه التعاليم على لسان شيخ إخواني اسمه الشيخ المنوفي إلا أنها هي ذاتها إحدى كلمات البنا التي ألقاها في أحد المؤتمرات الإخوانية وصارت جزءًا مما يسمى “الرسائل”.
وفي رواية “حديث الصياح والمساء” تجد محفوظ أيضا يضع أمامنا شخصية إخوانية من ذات طراز الشخصات الأخرى التي شخصها لنا من قبل، إلا أن المحيِّر هو أن محفوظ عندما وافق على إعادة طبع روايته أولاد حارتنا اشترط أن يوافق الأزهر، ويبدو أن محاولة اغتيال محفوظ أثرت عليه لذلك آثر السلامة. ومات نجيب محفوظ قبل أن يحكم الإخوان مصر ولكنه كان قد قال قبل موته يبدو أن الشعب المصري يريد أن يُحْكَم بالإخوان! وحدث ما توقعه محفوظ، إلا أن الشعب استعاد وعيه سريعًا فحذف الإخوان من قائمته إلى الأبد.