عصا المصريين (9) .. مايصحش كده!
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
اختلفت اهتمامات المجتمع المصرى تماما بعد 25 يناير ، فالسياسة أصبحت ( عامل مشترك أعظم ) فى حياة المصريين على كافة مستوياتهم بعد ان كانت موضع اهتمام شريحة صغيرة من المجتمع ، و شارك الجميع فى مناقشات سياسية – بعضها قائم على معلومات و البعض الآخر يصل إلى حد الهرتلة – سواء كانت أمورا سياسية مباشرة تتعلق بنظام الحكم و علاقة الحاكم بالمحكومين ، أو أمور الحياة التى تختفى السياسة فى طياتها كالاقتصاد مثلا .
ثم جاءت 30 يونيو و أصبح المصريون فريقين ، فريق يشجع الجيش و فريق يشجع الإخوان ، و برغم غلبة الفريق الأول عددا إلا ان الفريق الثانى – على قلته – كان عالى الصوت ، كثير الحركة ، عنيف الخصومة ، و بينما الفريق الأول يستخدم عصا المصريين ( السخرية ) للنيل من الفريق الثانى ، كان فريق الإخوان لا يستخدمها ، لأنه يفتقر لخفة الدم و جمال الإبداع فى النكتة و تلك نتائج طبيعية للطاعة العمياء ، فالسخرية تمرد مكتوم و التمرد عندهم حرام ، و فى صياغتها خروج عن المألوف و يحتاج الى عقل مبتكر و ليس عقلا يقدس النقل عن السلف . و لذا لجأ هذا الفريق للعصى الحقيقية بل و الهراوات .
لا أعتقد أن هناك فترة مرت على الشعب المصرى طوال تاريخه تميزت بالاستقطاب الحاد و بكل هذا الاحتقان مثل تلك الفترة ، فبسبب الخلاف السياسى تقاطع أصدقاء و تعادى إخوة ، و وصل الأمر الى أنه وقعت حوادث طلاق بسبب أغنية ( تسلم الأيادى ) !! و باتت السخرية لا تكفى لإصلاح الحياة أو عودة التوازن النفسى للشعب المصرى ، و على الفور لجأ المصريون للضحك الخالى من أى منغصات او حتى تفكير ، ( ضحك ) بلا هدف سوى الضحك و التسرية عن النفس و نسيان المعاناة فى خسارة ربما قريب أو صديق خالفك فى الرأى ، ضحك يشبه المخدر يغيب به الناس عن الواقع قليلا لكى يتحملوا الاستمرار فيه ، و على الفور انطلقت القنوات تعوض خسارتها من برامج التوك شو فى برامج الضحك الخالص ، و نجحت إحدى التكوينات المسرحية المذاعة على قناة فضائية فى تحقيق معدل عالى من الضحك ، و صار أعضاؤها أبطالا و نجوما و صاروا ” ظاهرة ” يتم تقليدها .
و برغم هجوم البعض الضارى على تلك الظاهرة إلا أنها طبيعية و نتاج للمرحلة ، مثلها مثل كل ما يظهر فى فترات التحولات الكبرى : فهكذا ظهر برنامج ساعة لقلبك مع تحول مصر من الملكية إلى الجمهورية ، و ظهر ثلاثى أضواء المسرح مع تحولها إلى الاشتراكية ( فترة تقديم الاسكتشات ) ، ثم ظهرت عشرات الفرق الخاصة مع تحولها الى الانفتاح ، و أخيرا ظهر مسرح الفضائيات مع التحولات الدراماتيكية ما بعد 25 يناير ، و كلها تندرج تحت راية الضحك للضحك.
و مع اختفاء آخر ( الأراجوزات ) حاولت قنوات الإخوان سواء على التليفزيون أو النت خلق أراجوز ينقد و يلسع و يسخر معبرا عنهم ، و بما أنهم مقلدين و غير مبتكرين و لا يتميزوا بخفة الظل خابت كل النسخ بدءا من “جو شو الى عبد الله الشريف” ، فكلهم لم يعبروا عن المزاج العام للمصريين ، و إذا كانت هناك أعدادا تشاهدهم فليس معناها انها تقتنع بما يقولون ، فأحيانا تكون المشاهدة من باب الفضول أو لأسباب أخرى قد نتعرض لها فيما بعد .
و لا ننكر أنه فى فترة الضحك الخالص منزوع المعنى و الهدف ، ظهرت استثناءات قليلة أو نادرة تعاملت مع الواقع الاجتماعى بسخرية دون النظر لارتباط الاجتماعى بالسياسى ، إلا أن هذه الاستثناءات وقعت بعد فترة فى فخ التكرار ، و افتقد المصريون عصاهم ، خاصة أنه بعد استباب الأمر للفريق الأكثر غلبة بدأت معارك بناء ضخمة اشعلت حماس المصريين .
و لكن مع بداية الإصلاح الاقتصادى باهظ الثمن ، شديد الوطأة ، بدأت ملامح من السخرية تظهر من جديد ، و كان ذلك أفضل ما يصنع توازن بين ما يعانيه المصريون من إجراءات اقتصادية لم يتعودوا على عنفها و تلاحقها ، و بين إيمانهم و ثقتهم فى قائدهم الذى أكد أن لا حل سواها و أن عليهم أن يتحملوا ، و بسبب تطور العصر كانت السوشيال ميديا هى الميدان الجديد للعب بعصا المصريين ، و تكفلت “الكوميكس” بأن تحل محل النكتة المصرية الشهيرة و تنافسها فى التواجد و التعبير .
و لكن أتت الرياح بما لا تشتهى السفن ، فمجرد أن انتقد رأس الدولة الاعلام و أبدى امتعاضه مما يتم تداوله من سخرية فيها بعض التجاوز فى عبارته الشهيرة : مايصحش كده ، حتى خلطت بعض الأجهزة بين عصا المصريين التى تتيح لهم تحمل مصاعب الحياة و بين التجاوز غير المقبول من قلة ، و تسابق الجميع لفرض قواعد جديدة فصار الإعلام كله فى قبضة واحدة صحافة و تليفزيون ، و اختفت صحف المعارضة و صارت القنوات التليفزيونية نسخة واحدة باهتة تفتقر لابسط قواعد المهنية .
و تم فرض شركة انتاج واحدة و وحيدة تتحكم فى سوق الفن ، ففرضت شروطها و تصوراتها و وظفت هذا فى تحجيم الأجور و تعظيم مكاسبها ، و لم يستطيع أحد الخروج من عباءتها و إلا جلس فى بيته بلا عمل ، و فرضت تلك الشركة قواعد رقابية متعسفة حفاظا على مكانتها ، نابعة من قاعدة ( من خاف سلم ) حتى بات المجتمع الفنى يتحسر على زمن انتاج أفلام مثل : “اللعب مع الكبار، البرئ، زوجة رجل مهم” ، و زادت مساحة التضييق و التعنت و المنع نتيجة لارتعاش يد الرقيب و باتت كل البرامج الساخرة تقع تحت سلطة رقابة ( حافظة و مش فاهمة ) و تعنت السيد الرقيب مع الجميع حتى صار ظهور ( ضابط ) فى أحد الأعمال من باب المعجزات ، و بعد أن اقتنع البعض بأن الدولة هى ما تطلب هذا ، إذا بأكبر الأجهزة السيادية ( وزارة الدفاع ) تكسر كل هذه القواعد الرقابية عندما تتعاون مع نفس الشركة فى انتاج مسلسل الاختيار ، و لأول مرة يظهر ضابط يتحول الى إرهابى ، و يكتشف الجميع أن تلك الرقابة المفروضة لا تعبر عما تريده الدولة ، بل إنها لا تملك أى معايير تحكم عملها سوى خوفها .
و تساءل الناس : من نحن ؟ هل نحن ذلك الرقيب المذعور الذى يمنع كل شيئ على طريقة الباب اللى يجيلك منه الريح ؟ أم نحن الدولة القوية الواثقة التى تفتح الباب لكل الأفكار و الرؤى تتنافش فى رقى و موضوعية لتختار أفضل المسارات ؟ ، هل نحن المجتمع الذى يتهم أى رأى مخالف بأنه إخوان أم نحن المجتمع الذى يسمح فيه رئيس الجمهورية للجميع أن يسأله بحرية و على الهواء ؟ و لماذا لا تهب نسمات الديمقراطية إلا على هذه الاجتماعات فقط ؟ و كاد البعض أن يجزم أن رأس الدولة فى واد و أجهزتها فى واد آخر ، و أن هذه الأجهزة أصابت عصا المصريين بالشلل المؤقت ، فماذا كانت النتيجة ؟