أم كلثوم التي أوقعت الكبار في الخطأ
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
ينبغي أن نكتب اليوم عن “قصيدة العمالقة” ولكن ما هي تلك القصيدة؟ دون تفكير قل معي وأنت مغمض العينين: إنها قصيدة “أراك عصي الدمع شيمتك الصبر” فالذي كتب هذه القصيدة هو أبو فراس الحمداني وهو واحد من أكبر شعراء العربية على مر العصور، ولكنه تعرض لسوء حظ إذ أنه كان في عصر المتنبي أشعر شعراء العرب جميعا، فنسي الناس أبا فراس وعاشوا مع المتنبي وقصائده، ولكن أبا فراس كان أحد الفرسان الكبار الذين خاضوا غمار المعارك ضد الروم، وهو الأمر الذي لم يكن للمتنبي رغم شعره الذي كتبه عن فروسيته، وإذا فُرض وعاش أبو فراس في عصرنا الحديث لكتب في “السي في” الخاص به إنه أحد أركان الدولة الحمدانية وابن عم أميرها سيف الدولة الحمداني الذي أسس إمارة حلب في القرن الرابع الهجري، وأن هذه القرابة جرَّت عليه من الويلات الكثير، مظلوم هو يا ولدي من كان ابن عم للأمير!! خاصة إذا كان ابن عم أمير الدولة الحمدانية.
وقد غنت أم كلثوم كوكب الشرق هذه القصيدة بثلاثة ألحان مختلفة، لثلاثة من عمالقة الموسيقى العربية، اللحن الأول لعبده الحامولي، وكان قد أعد هذا اللحن عام 1901 من أجل الشيخ أبي العلا محمد أحد أبرز الملحنين في بداية القرن العشرين، وهو الملحن الذي أكتشف أم كلثوم، فأعطاها أبو العلا تلك القصيدة عام 1926 وسمح لها بأن تغنيها بلحن عبده الحامولي، ثم في منتصف الأربعينيات غنتها أم كلثوم بلحن للشيخ زكريا أحمد، ثم في عام 1965 غنتها بلحن لرياض السنباطي أعظم موسيقار شهدته الموسيقى العربية في عصرها الحديث، ومع احترامي لجميع الملحنين الكبار، سواء كان منهم عبد الوهاب أو كمال الطويل أو بليغ حمدي أو غيرهم، وإذا كان يُنسب للإمام الشافعي أنه قال:”الناس عيالٌ في الفقه على أبي حنيفة” فأنا سأقتبس هذا القول مع تعديل بسيط هو :”الموسيقيون عيالٌ في الموسيقى على السنباطي”.
هل انتهينا الآن من العمالقة؟ لا يا سيدي العزيز فهناك عمالقة سيأتي ذكرهم فيما بعد، ومن باب المفاجأة سأقول لك إن منهم نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي، ولهؤلاء جميعا قصة يجب أن تُروى مع قصيدة “أراك عصي الدمع”.
نعود إلى الشاعر وقصيدته، وهى قصيدة جميلة ورقيقة، كتبها الشاعر من باب التورية السياسية، فالظاهر من كلماتها أنها قصيدة حب يعاني فيها الشاعر من هجر حبيبته له، وعدم اهتمامها به، وفي الحقيقة أنه كان يوجه كلمات القصيدة للأمير ابن عمه، ولكن كرامته أبت أن يكتبها في صورة استعطاف للأمير، فأصبحت قصيدة حب، ولكي تعرف قصة هذه القصية يجب أن تعلم أن أبا فراس الحمداني كان فارسا وقائدا لجيش الدولة الحمدانية، وقاد حروبا ضد الدولة الرومية، وتم أسره مرتين، وافتداه ابن عمه في المرتين، ولكن “التالتة لم تكن التابتة” يا ولداه، فحين وقع في الأسر في المرة الثالثة رفض الأمير أن يفتديه، ولم تكن هذه نذالة من الأمير كما تظن ولكن الوشاة لعبوا بعقل الأمير وقالوا له: إن ابن عمك شاعر له شعبية وسط الجماهير كما أنه أصبح بطلا لأنه قائد الجيش الذي يواجه الروم ويصد هجماتهم على الدولة الحمدانية ، فلو عاد من أسره لنازعك في الحكم وأخذه منك.
ويبدو أن سيف الدولة كان صاحب أذن كبيرة، تعودت على سماع الوشايات، فشطب على ابن عمه الأسير من أجندة حياته، ونسيه تماما، والشاعر أبو فراس في سجنه يجلس في زنزانة مقفرة سوداء، لا يجد من ينقذه من أسره، وإذا أردت أن تعرف مقدارالحزن الذي سيطر على مشاعر أبي فراس فشاهد فيلم “فارس بني حمدان”الذي قام ببطولته فريد شوقي وحش الشاشة مع السندريلا سعاد حسني، فهو من الأفلام الرائعة وقد أبدع فريد شوقي في تصوير شخصية هذا الفارس الشاعر ومأساته وهو في الأسر، ومن باب الشيء بالشيء يُذكر فإنه عندما غنت ام كلثوم قصيدة أراك عصي الدمع، وأخذت الساحة الفنية تتحدث عن هذه الأغنية والنجاح التي حصلت عليه رغم صوبة الكلمات، فكان أن قرر المنتج حلمي رفلة أن ينتج قصة فيلم عن حياة هذا الشاعر، فوجد أن الشاعر الكبير علي الجارم كتب عام 1944 قصته فأسند إخراج الفيلم للمخرج نيازي مصطفى وتم عرضه في دور السينما لأول مرة عام 1966 ، وهو في الحقيقة من الأفلام الممتعة ولا يمكن أن ننسى أن الذي كتب السيناريو لهذا الفيلم هو السيناريست الكبير “عبد الحي أديب” والد عماد أديب وعمرو أديب.
هل ابتعدنا عن الأغنية قليلا؟ لا أعتقد خاصة وأن مخرج الفيلم جعل الأغنية بصوت ام كلثوم ولحن رياض السنباطي هى أغنية الفيلم، أما الممثلة التي ظهرت بدور المطربة التي تغني تلك الأغنية فهي “شمس البارودي” ولكن الصوت كان بطبيعة الحال لأم كلثوم، والكلمات، ما أشجاها من كلمات، فالشاعر فيها يخاطب ابن عمه بـ “الشيفرة الشعرية” تبدأ القصيدة بخطاب بين الشاعر ونفسه، فليس هناك أحد معه ليخاطبه، فتقول له نفسه: “أراك عصي الدمع شيمتك الصبرُ” أي أن نفسه تراه جامد الوجه، تحجرت دموعه في عينيه، ترفض أن تسيل على خده، ويبدو أن الصبر من طباعك، ثم يستكمل الشاعر: “أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ” نفسه هنا تستحثه على التعبير عن مشاعره، فتقول له أيها الرجل الذي يبدو في الظاهر جامدا متحجر المشاعر، أليس للهوى قدرة على أن يأمرك وينهاك؟ فيرد الشاعر على نفسه قائلا: بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سرُ… هو يرى نفسه فارس كبير لا يجوز أن يقال عنه أنه بكى، ذلك أن من شيمته “الكِبر”.
كان الشاعر يعبر عن شوقه لبلده، وعن شوقه لابن عمه الذي كان قد اتخذه صديقا، وتستمر القصيدة على هذا النسق، ثم يعترف أنه إذا جاء الليل وأصبح وحيدا في زنزانته لا يراه أحد نزل دمعه :” إذا الليل أضواني بسطتُ يد الهوى” أي أن الحب وقتها يسيطر على مشاعري، فمالذي يحدث؟ :”أذللت دمعا من خلائقه الكبرُ” ففي هذا الجو المظلم، والوحدة القاتلة ترق المشاعر وتثير الذكريات نفسه فيبكي ويسيل الدمع الذي كان الكِبر من طباعه، وهكذا تستمر القصيدة، وهي قصيدة ممتعة شجية، ولكنك سترتفع إلى آفاق رائعة سحرية وأنت تسمع ام كلثوم وهي تشدو وتُطرب.
قلنا إن أول من قام بتلحين هذه القصيدة هو عبده الحامولي عمدة الملحنين والمطربين في القرن التاسع عشر، وعندما أخذ بعض أبيات هذه القصيدة وجد أن البيت الثاني يبدأ بكلمة “بلى” وبلى هنا وفقا لقواعد اللغة العربية هي الكلمة التي تجيب على الاستفهام، بمعنى أن نفسه سألته” اما للهوى نهي عليك ولا أمر” الإجابة هنا لا تكون بنعم، ولكن تكون بـ “بلى” وإذا كنت تقرأ القرآن ستقف لتتعلم هذا من الآية القرآنية التي تبدأ بالاستفهام “أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم” هنا كانت الإجابة “بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيم” بلى إذن هى التي تكون إجابة الاستفهام وليس نعم، ولكن عبده الحامولي وهو يضع لحن هذه القصيدة وجد أن كلمة بلى من الممكن أن تكون ثقيلة، خاصة وأن معناها يلتبس مع مشتقات “البلاء” فخالف قواعد اللغة العربية وجعل الإجابة نعم، وهكذا غنتها أم كلثوم عام 1926 بلحن الحامولي، ثم غنتها بنفس الكلمة في لحن زكريا أحمد عام 1944 ، ثم جاءت الثالثة بلحن رياض السنباطي وأصرت أم كلثوم على مخالفة قواعد اللغة وغنتها بـ “نعم أنا مشتاق وعندي لوعة”.
لن أكلمك اليوم عن لحن الحامولي ولحن السنباطي، وكيف أن السنباطي أبدع وأحدث تغييرا تاريخيا في الألحان الشرقية عندما جعل البيانو لأول مرة آلة من آلات تخت شرقي، وهو الآلة الغربية، ولن أكلمك عن بداية اللحن من مقام “الكرد”، وهو من المقامات الشرقية الشهيرة، ثم دخوله على مقام “الراست” وهو مقام شرقي أصيل وممتع، واعذرني لأنني لن أستطرد اليوم في هذا اللحن ومقاماته وطريقة أداء أم كلثوم، فقد آن الأوان أيها السادة الكرام أن أتحدث عن عمالقة آخرين، هم يوسف السباعي نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي والمخرج يوسف شاهين، وهم الأعمدة الرئيسية في فيلم “الناصر صلاح الدين الأيوبي” الذي تم عرضه عام 1963، كتب قصة الفيلم يوسف السباعي، وقام بكتابة السيناريو والحوار الأديب العملاق عبد الرحمن الشرقاوي، وشاركه في السيناريو عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، ونعرف كلنا أن الذي أخرج الفيلم هو يوسف شاهين، والمؤسف أن كوكب الشرق أم كلثوم أفسدت عليهم مشهدا من مشاهد هذا الفيلم، كيف كان هذا؟.
سأحكي لك هذا الأمر باختصار، فالآن عرفنا أن الحامولي غيَّر كلمة “بلى” إلى كلمة “نعم” وغنتها أم كلثوم بنعم أنا مشتاق وعندي لوعة، ولأن عبد الرحمن الشرقاوي كان شاعرا لذلك وضع من سيناريو الفيلم جلسة استراحة بين بعض جنود صلاح الدين، وأخذ الجنود يتسابقون في مسابقة شعرية، بحيث يقول أحدهم بيتا من الشعر فيرد عليه المتسابق ببيت يبدأ بالحرف الذي انتهى به البيت السابق، وعندما قال أحدهم بيتا ينتهي بحرف النون، بدأ الآخر ببيت أبي فراس “نعم أنا مشتاق وعندي لوعة” في حين أن أبا فراس لم يقل في هذا البيت:”نعم أنا مشتاق” ولكنه قال:”بلى أنا مشتاق” والتي قالت نعم هي أم كلثوم، فكان هذا الخطأ الغريب الذي فات على عمالقة كبار هم عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ ويوسف السباعي.