كتب : محمد حبوشة
رحل الفنان القدير والكبير الصادق في أدواره، المؤمن إيمانا عميقا برسالة الفن السامية “محمود يس” الذي لقب بفتى الشاشة الأول في زمن الفن الجميل، وقد شبهه البعض في السنوات الأخيرة بـ “شون كونري” السينما المصرية، فعلى مدار مشواره الفني تألق في أدوار الشاب والأب وأخيرا الجد، ومن ثم أصبح له تاريخ طويل من الأعمال الفنية في السينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة، ولعل أبرزها أنه يعتبر أشهر جندي في السينما المصرية، حيث قدم شخصية الجنديوالضابط المصري الوطني في أكثر من عمل سينمائي وعلى رأسها “الرصاصة لاتزال في جيبي” الذي عرض قبل أيام، وشاء القدر أن يرحل “يس” مع احتفالنا بالذكرى 47 لانتصار أكتوبر المجيد.
تميز الراحل العظيم “محمود يس” بصوت رخيم وأداء مميز في اللغة العربية التي أتقنها جيدا، كما ظهر ذلك عبر أدوار متميزة في المسلسلات الدينية والتاريخية، ما جعلها تحفر بحرف من نور في ذاكرة المشاهدين، وهو مارشحه أيضا لتولى التعليق والرواية في المناسبات الوطنية والرسمية، ولكن ذلك كله لم يمنعه من أداء بعض الأغاني في بعض أعماله الفنية، ومن أهم أعماله السينمائية (الخيط الرفيع، حبيبتي، الحب الذي كان، أين عقلي، سونيا والمجنون، انتبهوا أيها السادة، أفواه وأرانب، التعويذة، أغنية على الممر، الرصاصة لاتزال في جيبي)، ومن أهم مسلسلاته (الدوامة ، سوق العصر، العصيان).
ولد “محمود يس” بمدينة بورسعيد وبدأ التمثيل المسرحي من المرحلة الإعدادية، ولم يكن في ذهنه طموحات غيره، خاصة أنه لم يبدو أي اعتراض من جانب الأهل، و في مرحلة الثانوي كان يذهب مع رفاقه في المدرسة إلى (مسرح رمسيس) في بورسعيد، والذي أنشأ على غرار مسرح يوسف وهبي في القاهرة، من خلال مجموعة من عشاق المسرح عبر النشاط الاجتماعي من خلال جمعية أهلية أقيمت لهذا الغرض، وقد أقاموا مايسمى بالفرقة الإقليمية لممارسة النشاط المسرحي، وكان يقود تلك الفرقة ممثل بورسعيدي قدير يدعى “نصر الدين الغريب”، كان يذكره بنجيب الريحاني عندما يراه، خاصة أنه كان يقوم بتمثيل روايات الريحاني بذات الدقة على مستوى الفعل الدرامي وبنفس الزخم المسرحي الكوميدي، ناهيك عن دخول “يس” منافسات المدراس في ذلك الوقت، والتي ألهبت خيال “محمود ” ذلك الفتى الذي لم يرى في ذلك الوقت سوى أن المسرح لديه هو مدرسة المسرح القومي ، فقد كان حلمه في يوم من الأيام أن يقف على خشبته ليقول ولو جملة واحدة.
ظل حلم المسرح يراود “محمود يس” منذ طفولته وفي مرحلة الصبا والشباب إلى أن التحق بالمسرح القومي بعد تخرجه من الجامعة، خاصة أنه عاش تجربة هذا المسرح وهو طالب بكلية الحقوق جامعة عين شمس، حيث كان هذا المسرح يقوم بعمل (ربتوار) يقدم من خلاله على مدى 10 أيام عشرة مسرحيات مختلفة، وبالفعل نجح بعد فترة قصيرة من الالتحاق بالمسرح القومي، وفي هذا التوقيت بالذات تم تعيين “محمود يس” ممثلا بالمسرح القومي، فبدأ رحلته في البطولة من خلال مسرحية “الحلم” من تأليف محمد سالم وإخراج عبد الرحيم الزرقاني، بعدها بدأت رحلته الحقيقية على خشبة “المسرح القومي” والذي قدم على خشبته أكثر من 20 مسرحية أبرزها (لية مصرع جيفارا)، سليمان الحلبي، وطني عكا،ليلى والمجنون، عودة الغائب، الزير سالم، وقدساه، الخديوي)، والأخيرة هى نفسها المسرحية التي تنبأت بثورة 25 يناير، وكانت ممنوعة من العرض.
ولعل عشقه للمسرح كان سببا في تردده في قبول العمل بالسينما ربما لإدراك دفين بداخله أن الأدوار المسرحية الصادقة تؤدي بالضرورة إلى نقل التجارب الشخصية الواقعية على خشبة المسرح، ويعني هذا أن الممثل لكي يؤدي دوره الصادق النابع من الإيمان عليه أن يستذكر تجاربه الشخصية التي وقعت له في الواقع، ويعيشها مرة أخرى على خشبة المسرح، ويتذكر تفاصيلها معايشة ومعاناة، ومن ثم يعد تشغيل الذاكرة الانفعالية فوق الخشبة من أهم الآليات الفعالة لربط الدور المسرحي بالحياة، وربطه أيضا بالصدق النابع من الذات الحية.
ربما كانت قناعته وإيمانه بمبدأ (ستانسلافسكي) الذي يقول “إن اكتمال تجاربنا الخلاقة كلها وقوتها يتناسبان مع قوة ذاكرتنا الانفعالية، ودقتها، ومضائها تناسبا طرديا، أما إذا كانت ذاكرتنا ضعيفة، فإن المشاعر التي تثيرها تكون باهتة وهزيلة، ولا قوام لها، وتنعدم قيمتها على المنصة؛ لأنها لا تستطيع التأثير على الجماهير التي تجلس فيما وراء الأضواء الأرضية” كان سببا شخصيا لجعل المسرح هو عالمه الحقيقي في التمثيل ليس غيره، حتى جاءته فرصة البطولة الأولى مع الفنانة العظيمة (شادية) عام 1970 من خلال فيلم (نحن لانزع الشوك).
لكن شهرته الأكبر جاءت من خلال أعماله السينمائية المختلفة منها (الرجل الذي فقد عقله عام 1968، والقضية 68 ، ودوره الملحوظ جدا في شيء من الخوف)، ثم ظهر في (الخيط الرفيع) وتطورت أعماله للظهور الكلي بالبطولة المطلقة في (شباب يحترق، حكاية بنت اسمها مرمر، حب وكبرياء، أنف وثلاث عيون، العاطفة والجسد، الشيطان امرأة والزائرة، قاع المدينة، غابة من السيقان)، وتنافست عليه النجمات فقام ببطولة عدة أفلام مع أكبر نجمات مصر مثل فاتن حمامة في (الخيط الرفيع، حبيبتي، أفواه وأرانب)، ومع نادية لطفي في (الزائرة، قاع المدينة) ومع المطربة نجاة في (جفت الدموع) ومع شادية في (شيئ من الخوف، نحن لانزرع الشوك) ومع نجلاء فتحي في (بدور، الرصاصة لا تزال في جيبي، الساعة تدق العاشرة).
في ثمانينيات القرن الماضي قدم (محمود يس) العشرات من الأعمال الفنية، وبطولات في أفلام (رجل ضد القانون، أيام الرعب، نواعم، التعويذة، الرجل الصعيدي، العز بن عبد السلام، العملية 42، الكماشة، الملعوب، المواجهة)، كما قدم في 1987 (موعد مع القدر وكوم الدكة والأفيال والجلسة سرية والحرافيش )، وفي عام 1992 فيلمي (تصريح بالقتل والشجعان) وعام 1993 (الستات، وطعمية بالشطة، امرأة تدفع الثمن)، كما قدم مجموعة كبيرة من الأفلام الممتعة الجذابة، لكنها لم تنل نجاحا كبيرا مثل (ليه يا دنيا، ثلاثة على مائدة الدم، أيام الشر، أقوى من الطوفان، كوكب الشرق، حائط البطولات، وفتاة من إسرائي، الأخطبوط).
ومن أشهر الأفلام التي قدمها “يس” في بداية الألفية الثالثة وتحديدا في في 2007م (الجزيرة) مع أحمد السقا الذي يدور حول (منصور)، ومن أهم أعمال الدراما التليفزيونية للراحل الكبير (محمود ياسين) مسلسل (الدوامة، أيام المنيرة، فارس السيف والقلم، أقوى من الطوفان، عزبة المنيسي، ضد التيار، الإمام الأعظم أبو حنيفة، رياح الشرق، خلف الأبواب المغلقة، العشق الإلهي، حديقة الشر، سوق العصر، العصيان، ثورة الحريم، حكاوي طرح البحر، بابا في تانية رابع، سلالة عابد المنشاوي، التوبة)، كما لعب أدوارا أكثر في 2008م، بمسلسل (السماح، وعد مش مكتوب، ماما في القسم)، وهو آخر مسلسل تلفزيوني قدمه أمام الفنانة سميرة أحمد وشاركهم البطولة خيرية أحمد وعمر الحريري.
هذا ويعد (محمود ياسين) أشهر جندي في السينما المصرية، حيث قدم شخصية الجندي المصري في أكثر من عمل سينمائي، بالإضافة لتقديمه العديد من الأفلام عن الحروب التي خاضتها مصر سواء الاستنزاف أو حرب أكتوبر 1973، ومن أهم تلك الأفلام “أغنية على الممر، الوفاء العظيم، الظلال في الجانب الآخر، حائط البطولات، فتاة من اسرائيل”، وهو ما كان سببا كافيا بأن يكون أشهر جندي وضابط أيضا في تاريخ السينما المصرية، حيث أسس لهذا اللون من الأداء الوطني الباعث على القوة والإيمان والعزيمة لذى شباب يتعطش لمثل تلك البطولات.
بلغ رصيد الراحل (محمود يس) في السينما أكثر من 150 فيلما، حصد عنها العديد من الجوائز في مختلف المهرجانات في مصر وخارجها، تُوج تاريخه الفني بالكثير من الجوائز والأوسمة التي بلغت حوالي 50 جائزة من مختلف المهرجانات، حيث حصل على جوائز التمثيل من مهرجانات طشقند 1980م، والسينما العربية في أميركا وكندا 1984م، وعنابة بالجزائر 1988م، بالإضافة إلى جائزة الدولة عن أفلامه الحربية 1975م، وجائزة الإنتاج من مهرجان الإسماعيلية 1980م، وتم اختيار الفنان محمود ياسين، كرئيس تحكيم لجان مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عام 1998م، ورئيس شرف المهرجان في نفس العام، إلى جانب اختياره عام 2005م من قبل الأمم المتحدة سفيراً للنوايا الحسنة لمكافحة الفقر والجوع لنشاطاته الإنسانية المتنوعة.
جدير بالذكر أنه على الرغم من كل تلك المسيرة الإبداعية الطويلة في المسرح والسينما والتليفزيون والإذاعة والتي حفلت بالأعمال التي قدمها الفنان الراحل (محمود يس)، إلا أنه آن لها أن تتوقف ويسدل الستار عليها، بعدما أعلن الفنان المصري اعتزاله التمثيل بشكل نهائي، يوم 14 سبتمبر 2018، على لسان زوجته الفنانة القديرة (شهيرة) ، والتي أكدت وقتها أن زوجها بالفعل اعتزل التمثيل بشكل نهائي، مكتفيا بالمسيرة التي قدمها طوال السنوات الماضية، وذلك على الرغم من ابتعاد “يس” منذ سنوات عن التمثيل لأسباب صحية وعدم قدرته على المشاركة في أية أعمال فنية، رافضة الكشف عن تفاصيل الحالة الصحية لزوجها إلى أن توفاه الله عز وجل صباح اليوم عن عمر ناهز الثمانين عاما .. رحم الله نجمنا الكبير الذي أمتعنا بروائع فنية كثيرة في المسرح والسينما والتليفزيون.