شجيع السيما والبلطجي: ضدان لا يلتقيان
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
كان (شجيع السيما) هو موضع إعجاب الجماهير دائما، وقد كانت أدوار الشجيع التي قام بها فريد شوقي ورشدي أباظة وأحمد رمزي هى السبب الأول في شهرتهم، وقد استطاع رشدي أباظة أن يحصل على حب الجماهير عندما قام بدور (الغجري) قوي البنيان صاحب العضلات المفتولة في فيلم (تمر حنة) عام 1957 ثم أصبح أباظة ملكا متوجا في أفلام القوة والفتونة في فيلم (صراع في النيل) عام 1959، وقد نجح أباظة في هذا الفيلم أن يرسم صورة متفردة للبطل الشعبي الذي يدافع عن الحق ويقف ضد اللصوص، ويعرف كل حيلهم فيفسد عليهم تدابيرهم الشريرة، أما أحمد رمزي فقد كان البطل الارستقراطي خفيف الظل الذي يواجه الأشرار دائما ويتغلب عليهم، ولكن فريد شوقي جعل من نفسه بطلا شعبيا حقيقيا، كان هو (شجيع السيما) الحقيقي الذي يمثل الحارة المصرية، هو الشجيع الذي ظلمته الأيام ومع ذلك فإنه لم يعرف لليأس سبيلا، هو الفتوة المصري الحقيقي الذي يطلقون عليه (فتوة الغلابة) الذي يماثل شخصية روبن هود في الأدب الانجليزي، ذلك الذي يقف في وجه اللصوص الأغنياء لينتصر للفقراء، هو الفتوة صاحب الأخلاق، أو المجرم التائب الذي ينتصر للخير.
وفي التاريخ المصري منذ أوائل القرن العشرين كان الفتوة يحمل بعدا أخلاقيا، هو الذي يدافع عن أهل الحارة، وهو الذي يحصل لهم على حقوقهم، وهو الذي يحميهم من اعتداءات اللصوص والبلطجية، وفوق ذلك كان الفتوة صاحب وظيفة رسمية، يتعامل مع الحكومة لضبط الخارجين على القانون، ولأن القوة يمكن أن تكون مفسدة، لذلك كان هناك العديد من الفتوات الذين خرجوا عن (القواعد الأخلاقية للفتونة) وأصبحوا لصوصا، هؤلاء أطلق عليهم الناس لقبا آخر هو (البلطجي) والبلطجي هو الذي يستخدم (البلطة) في أعماله الإجرامية ولا يستعمل العصا، و (جي) هي في اللغة التركية للنسب، كأن نقول (قهوجي) أي صاحب القهوة، وبوسطجي، أي عامل البوستة، وعربجي، أي سائق العربة، وبلطجي، أي الذي يستخدم البلطة في الغابات، لذلك فإن البلطجي هى مهنة تركية من أصلها، ويبدو أنها لذلك ظلت تمارس البلطجة عبر تاريخها.
الفتوة المصري إذن يختلف عن البلطجي، فالفتوة له قيمه وأخلاقه ووطنيته، فإذا انحرف أصبح بلطجيا، وقد كانت صورة الفتوة في الدراما المصرية تُحقق تلك المعاني، كما كانت الدراما تستقبح صورة البلطجي، ولم يحدث أن تعاطفت الدراما المصرية مع البلطجي إلا مؤخرا، وبتتبع الأعمال التي تناولت تلك الشخصية سنجد أن أبرز الأبطال الذين قاموا بأدوارها هم فريد شوقي، ورشدي أباظة، في حين أن أبرز من قام بدور البلطجي هم محمود المليجي وزكي رستم وتوفيق الدقن ومحمود إسماعيل، ومنذ الثمانينات برز في دور الفتوة عزت العلايلي ونور الشريف، في حين كان عادل أدهم هو أشهر من قام بدور البلطجي.
ولأن الفنون عموما ينبغي أن تقدم مضمونا يرتقي بالجمهور ولا ينزلق بهم إلى مهاوي الرزيلة، لذلك كانت السينما، وكذلك التلفزيون، يقدمان صورة نبيلة للفتوة، وفي ذات الوقت كان البلطجي يلقى دائما شر أعماله، وللفنون دورها في صنع وعي عام للجماهير، وهذا الوعي يجب أن يكون إيجابيا، فلا يقبل أبدا أن يقدم لنا الفن صورة البلطجي اللص القاتل الذي يعتدي على الآخرين ويسلب حقوقهم، ثم تضع ذلك كله في إطار برَّاق يجعلنا نتعاطف مع ذلك اللص المعتدي، أو أن تجعل من هذا البلطجي قدوة للشباب، وترسخ في أذهانهم معاني مفادها أن الإنسان يجب أن يحصل على حقه بيده، وأن اللجوء إلى الجهات الأمنية والقضائية هو مضيعة للوقت، ومضيعة للحق، ولو عقدنا مقارنة بين فيلم (فتوات الحسينية) الذي تم انتاجه عام 1954 والذي قام ببطولته فريد شوقي ومحمود المليجي، سنجد أن الفتوة الحقيقي هو (بيومي زقلط) الذي قام بدوره فريد شوقي، وقد ورث الفتونة وأصولها من أبيه الذي أوصاه ألا يعتدي على الناس ولا يرتكب شرا، في حين أن البلطجي الذي كان يروِّع الناس ويعتدي على حقوقهم هو (جعلص) محمود المليجي، الذي كان يريد أن يحصل لنفسه على لقب فتوة الحارة، والمقابلة هنا كانت بين فتوة يبحث عن قيم الحق والعدالة، وبلطجي يريد أن يعتدي على الناس ويسرق أموالهم، وكلاهما له قوته وأتباعه، وفي هذا الفيلم سنحب الفتوة الذي يريد العدل والحق، ويريد لأهل الحارة الخير كله، وسنكره البلطجي الذي يعتدي على أهل الحارة، ورغم أن البلطجي انتصر في البداية بعد أن دبر مكيدة تلقي بالفتوة في السجن، إلا أن البلطجي في النهاية يحصل على هزيمة كبرى، وينتصر الفتوة، وبالتالي ترتفع قيم العدالة، وتنكسر شوكة الظلم والبلطجة.
وقد سارت كل الأفلام التي تدور حول الفتوة والفتونة في ذات الإطار،وكلها تقريبا من تأليف عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، ومعظمها مأخوذ من الرواية العبقرية (الحرافيش) وكان منها أفلام المطارد لنور الشريف، وفيلم (الحرافيش) لمحمود ياسين، و(التوت والنبوت) لعزت العلايلي، وصولا إلى فيلم (الجوع) الذي نرى من خلاله كيف يتحول الإنسان الخيِّر صاحب القيم العليا إلى إنسان شرير، وهو ما يترجم المعنى الذي أراده المخرج من أن القوة والسلطة يمكن أن تحوِّل صاحبها من النقيض إلى النقيض، وقد نجح أشرف فهمي في ترجمة هذا المعنى ببراعة شديدة.
ويدور دولاب العمل الفني لنصل إلى نمط آخر أصبح هو السائد، ففي فيلم (إبراهيم الأبيض) بطولة أحمد السقا ومحمود عبد العزيز نجد أنه يدور حول صراع بين مجموعة من البلطجية، واللصوص، صبي يريد الانتقام لمقتل أبيه، فيشب على كراهية القاتل، ويعيش على أمل أن ينتقم، فيخضع نفسه لتدريبات، ثم ينضم لعصابة القاتل لكي يقترب منه، وتتوالى الأحداث التي نرى فيها كمية من الدماء، والعنف والكراهية، بحيث اننا يجب أن نتسائل: ما هى الرسالة التي يريد هذا الفيلم أن يوجهها للجمهور، وفي النهاية لن ترى رسالة، ولكنك سترى هدفا للمنتج هو أن يضع هذا الكم من العنف ليحصل على مرتبة أولى في شباك التذاكر.
ويدور دولاب العمل الفني مرة أخرى، لنتحسر على أعمال ليس من وراءها أي هدف إلا جني الأرباح، ومن خلالها يتم تشويه الوعي الجمعي للجماهير، وتشكيل مفاهيم شريرة في نفوس الشباب، بأن أحدا منهم لن تكون له مكانة إلا إذا كان مثل (عبده موتة) الذي قام بدور البطولة فيه محمد رمضان، وفي مثل أفلام هذا الممثل لن تجد إلا البلطجة والعنف وجلسات المخدرات، وطريقة استعمال السلاح الأبيض، وفي نفس عام فيلم (عبده موتة) نرى لذات الممثل فيلما آخرا بنفس المعاني ونفس الطريقة، بلطجي، ومسجل خطر، ومخدرات وسرقات، قصتان شبيهتان، بنفس السوء الأخلاقي في كليهما، بصورة مقززة، ولك أن تتعجب كيف تسمح الرقابة على المصنفات الفنية بمثل تلك النوعية المدمرة من الأفلام والتي هى أشد خطرا على الشباب من المخدرات، وإذا كنا قد أصبحنا نعيش تحت سماء الحرية، والدنيا كلها تعيش في بيت واحد، ومواقع الأفلام مثل (نتفليكس) تسيطر حاليا على سوق الأفلام، وأصبحت متاحة للجميع، إلا أن هذا لا يعني أن يكون المُنتج الفني المصري بهذا الانحدار الاخلاقي تحت زعم أن العالم كله يمارس نفس الرزيلة.
ولكي يعرف الناس خطورة مثل تلك الأعمال أتذكر أنه في فترة الستينيات عرض التلفزيون المصري مسلسلا كارتونيا اسمه (فرافيرو العجيب)، كان فرافيرو فيه يقوم بدور المنقذ للناس الذي يقبض على اللصوص، ويمنع الجرائم قبل ارتكابها، وفرافيرو (الكارتوني) هذا كان يطير ويحلق في السماء، فإذا ببعض الأطفال في تلك الفترة يظنون أن الطيران ممكنا إذا قلد الواحد منهم فرافيرو في طريقته، فترتب على ذلك وفاة عدد من الأطفال، حتى تم منع هذا المسلسل، هذا الأمر يعرفونه في علم النفس الاجتماعي بالبرمجة الذهنية، وهو الأمر الذي خلفته أفلام البلطجة التي ابتعدت كثيرا عن أفلام الفتونة، حتى أصبحت السينما في أيامنا الأخيرة مجرد حالة من حالات البلطجة، وأخذت أعداد كبيرة من الشباب تقلد محمد رمضان البلطجي، وتمسك بالسلاح الأبيض، وتعتدي به على الناس، رأينا هذا كثيرا وسنراه كثيرا لأن بتلك الأعمال تم عمل برمجة ذهنية للآلاف من الشباب.