كلام X الإعلام (2)
بقلم : على عبد الرحمن
لم أكن اتصور وأنا أدرس الإعلام ولا وأنا اتنقل بين مؤسساته متابعا لتطور أشكاله البرامجيه ومعداته التقنيه وتحولاته الرقمية، إنه سيأتي اليوم الذي أتوق فيه إلى إعلام الأمس بأشكاله التقليدية ومعداته البسيطة وتحولاته البطيئة، ولكنه يبدو أن الوقت قد حان منذ سنوات قليلة، فبعد أن كان إعلام الأمس رائدا تنويريا يصنع رأيا عاما ويشكله ويؤثر فيه ويثقف جيلا جهل الكثير عن روافد ثقافته ومصادر هويته، ويعلم أميون طامحون لنور العلم ويقدم قدوة نسير على نهجها ويزرع ويلتحم وينمي ويعبأ، يفعل مايريده الوطن والمواطن من خلال خطط قوميه متعددة الآجال، نسيج برامجي متنوع ومتكامل راعي التنوع العمري والمكاني وتنوع النوع.
ولن يتأتي ذلك إلا من خلال رواد تنوير ومثقفين هم آنذاك مقدمي البرامج ومعديها كانوا شركاء في الحراك المجتمعي ثقافة وعملا ونضالا حتى غدوا نجوما في ذلك الزمان، ورغم أن شاشاتنا كانت قليلة العدد وإمكاناتها محدودة إلا أنها لم تخلو يوما من خطاب إعلامي للطفل والأسره والدين وللثقافه والتعليم وللتأريخ، لكل شريحة رسائلها في ضوء استراتيجية إعلامية تتسق مع خطط الوطن وتخدم ملفاته، ذلك الإعلام الذي قاد ثورة البناء والحرب على الأمية ونشر الوعي، وقدم ثقافة ومثقفين ومواهب وعظم دور الأسرة والمرأة وشارك أهالينا في أطراف الوطن أيامهم.
ذلك الإعلام الذي جعلنا نحب البناء عندما يريد الوطن بنائيه ونحب القتال للتحرير حينما يقرر الوطن تحرير أرضه، ونكره التطرف عندما أراد الوطن لفظ متطرفيه، ونحب العلم عندما يريد لنا الوطن تقدما، ونحب الوطن لأنه أحلي الأوطان، وأصبح هذا الإعلام بإنتاجه صاحب الريادة في أمتنا العربية والإسلامية من خلال انتاجه البرامجي المدروس والترفيهي الذي يقدم المعلومة والدرامي الضخم الذي يؤرشف ويؤرخ ويزرع انتماءا وفخرا حتى أصبحت الشعوب من حولنا تتكلم لهجة مصرية وتحب وتعرف كل شئ عن مصر.
ذلك أودع حبا وتقديرا وولاءا في أفئدتهم حتي صاروا نجوم أوطانهم وقادتها وأتي اليوم الذي نمتلك فيه أضعاف أضعاف قنوات الماضي بإمكانات تقنيه لم يكن عقلنا يصل إليها وفضاءا إلكترونيا أباح كل شئ ويسر كل عسير وجعل مهمة الإعلام أصعب في صياغة الرسائل وتحديد الأهداف بدقه ومخاطبة كل شريحة عمرية ومكانية بحرفية بالغة، وحول المواطن من متلقى إلى مشارك وصانع ميديا.
ورغم أن المهمة أصبحت عسيرة والإمكانات أصبحت يسيرة ووصلت قنواتنا الرسمية إلى عشرات الشاشات المتشابهات المكررات وبجوارها عشرات الشاشات للإعلام المستقل ذو الخلفية الرسمية والذي أتى أيضا متشابها، مكررا، متمركزا، واختفت من كل هذه الشاشات مواد تنشئة واكتشاف أطفال عصر النت، واختفت أيضا برامج الأسرة التي تفككت وهى عماد أمتنا، ولم يهتم الإعلام بمواد الثقافة ورصد روافد الهوية حتى قاربت الروافد على النسيان والهويه على الضياع – لا قدر الله – واختفي المثقفون والمواهب من الشاشات.
ولم يقدم إعلامنا بشاشاته المتعددة خطابا دينيا وسطيا تنويريا، وغابت الفنون الرفيعه وأمور البحث العلمي، وانفصلت الجاليات عن الخطاب الإعلامي، وصال وحال المتربصون في إعلام الآخر دون رد مهني رادع، وسبقتنا دول صديقة في صناعة مواد الترفيه واكتشاف المواهب وأخري في صناعة الدراما وثالثة في صناعة الأخبار ورابعة في مجال الوثائقيات، وأصبح إعلامنا ترفيهيا، رياضيا، لاهيا بلا خطه ولا هدف، ولا رسالة، مما نتج عنه نوافذ إعلامية متشابهة ومضامين برامجية مكررة ووجوها لاتتغير.
وعجز إعلام اليوم عن تقديم منتج برامج متنوع وعن تقديم وجوه جديدة وعن تحول في بقاع الوطن وأفرد إعلام اليوم وقته كله لحب الأكلات وإن لم تكن وجبة مصرية خالصة، فضلا عن أمور السحر والشعوذة وإن كانت بلاخلفية دينية وبرامح منوعات تقدم معلومة في إطار التسابق، وأصبح التقديم لمن أراد لنفسه ذلك والإعداد لمن يرضي أن يتابع ضيفا مكررا حتى استديو البث، وحتي الفواصل والتنويهات أصبحت موسمية الموضوع، وغاب بلا رجعة الفيلم الوثائقي بكل أنواعه تاريخيا وتعليميا وترويحيا،وإحيائيا وتنويريا.
ولما كان هذا الوضع لا يشبع تطلعات وطن ولايرضي أحلام مواطن ولا يقبله خبير إعلام، ولما كان الإنفاق عليه باهظا والمأمول منه عظيما والعائد منه لايذكر، ولما كان لإعلام اليوم سيطرة على كل النوافذ الإعلامية ومصادر صناعة الأخبار وحتي عملاء الإعلان وروافد إنتاج الدراما، فإن الوضع يحتم عليه أمرا أن يراجع شاشاته المتكررة ومضامينه المتشابهة ووجوهه المألوفة ويراجع ماغاب عن خططه – إن وجدت – من مواد للتنشئه السليمة ومواد للأسرة المترابطة ومواد للمواهب الطامحة ومواد للدين السمح ومواد للثقافة والهوية، وذلك من خلال وضع خطط واضحة لإعلام مسئول على شاشات متخصصة تعالج هذا القصور البين، فلسنا في حاجة إلى عدة قنوات تقدم المنوعات فقط أو أخرى تقدم كرة القدم فقط وثالثة للغناء أو السينما أو الدردشات أو الطبخ أو الدجل فقط.
فهل فكر القائمون على إعلام اليوم في قناة لطفل اليوم الذكي المطلع المتمرد، وهل طاف بخيالهم قناة للتنميه ومشروعات الوطن الكبرى، وهل تمنوا قناة للثقافة والهويه، وهل عجزت بلد الأزهر وكعبة أهل السنه أن تقدم محتوى دينيا عصريا موثقا وسطيا سمحا تنويريا، وهل أصبح من الرفاهية أن تكون لدى مصر قناة وثائقيه متنوعة الروافد، وهل قطاع السياحه والبحث والابتكار وخريطة الاستثمار في مصر وأطراف الوطن ومواهبه وذوي الاهتمامات الخاصة؟، كل ذلك لم يقر فصولا لدى مسئولي إعلام اليوم.
إن الواجب الوطني يقتضي مراجعة هذه النوافذ اللاهية، وإعادة هيكلتها وتنظيمها لتصبح منظومة إعلام وطنية واعيه تتنوع شاشاتها وتتخصص لتشمل كل الموضوعات الوطنيه الغائبة وتغطي كل بقاع الوطن وتقدم كل شرائح المجتمع، تبحث وتدعم وتقدم للوطن نجوم الغد وقادة فكره، لأن التنوع في الخطاب الإعلامي مطلوب والتنوع في ضيوف البرامج أمر حتمي، ولأنه إعلام وطن فلكل الفئات حق فيه ولكل الأماكن نصيب منه، لكل الموضوعات جزءا من أوقات بثه.
أعلم أن مايغيب عن الإعلام من موضوعات قد تكون غير جاذبة إعلانيا، ولكن هل نترك النشئ والأسرة والدين والثقافة والهوية والتنمية وفئات المجتمع من أجل قلة الإعلانات، فأين دور الدولة ووزاراتها، وأين الكيانات الاقتصادية الوطنية، وأين إيرادات الوطن من أجل مواطنيه، وأين المتحكمون في توجيه الإعلانات، وأين مايخصص للحق في التنوير والتعليم والتنشئة والتثقيف؟.
إن مسألة وضع الخطط وتحديد الأهداف وتخصيص النوافذ وتنويع أوقات البث وتغيير الوجوه وعودة دور الدوله في إنتاج البرامج والدراما الضخمة ذات البعد التاريخي والديني والاجتماعي والتنموي لهو أم من أمور كثيره تتجه لها رءوس الأموال، فبناء النشئ وتحصينه أهم من بناء العقارات وتجميلها، إن الوطن وهو يتجمل بإنجازاته إمام أهل الأرض لهو في حاجة لتجميل محتوي أبنائه، كبد الوطن وقلبه وحاضره ومستقبله والآخذين به مستقبلا إلى حيث يريد الوطن وأهله لا حيث يدفعه إعلام اليوم في متاهات اللهو والغيبوبة وألامضمون.
فالوطن أمانة، والكلمة شرف، والإعلام مسئولية، وكلنا إخوة فيه شركاء في مسئوليته، أمناء على نشئه، حريصون على إقامة العدل الإعلامي فيه لتصبح شاشاته لكل الوطن، كما أنه وطن لكل قاطنيه.