بقلم : أحمد سعد الدين
يتميز الأديب إحسان عبدالقدوس باستطاعته التطرق لبعض المواقف الجريئة فى المجتمع المصرى وسردها بأسلوب سهل ومبسط، لكن فى الوقت ذاته لا نستطيع أن نفصل الحالة الإبداعية لدى إحسان عن قراءته السياسية التى تميز بها منذ أربعينيات القرن العشرين، لذلك وصلت لقلوب الشباب وعقول المثقفين والساسة، لما تحمله من رموز ودلالات تشرِح المجتمع وطبقاته وسياساته، فعندما تحولت روايته (الراقصة والطبال) لـ شريط سينمائي ظن البعض من اسم الفيلم أنه يدل على إحدى الحكايات المكررة التى تحدث فى الملاهي الليلية، لكن وجود أسماء مثل المخرج أشرف فهمي والسيناريست مصطفى محرم وكاتب حوار مثل بهجت قمر فى رواية لـ إحسان عبدالقدوس، مع وجود نجوم مثل أحمد زكي ونبيلة عبيد وعادل أدهم ونبيلة السيد جعل المشاهدين وخاصة الطبقة الوسطى تركز على ما بداخل القصة بصرف النظر عن الإسم التجاري للعمل.
فالمتتبع لأحداث الفيلم يجد أكثر من مشهد يصلح أن يكون (ماستر سين)، فقبل بداية الفيلم (الآفان تيتير) هناك مشهد فى غاية الأهمية نُفذ ببساطه شديدة، حيث تأخرت الراقصة (زيزي مصطفي) قليلاً فوقف (عبده الطبال) أمام الفرقة الموسيقية وكأنه قائد الأوركسترا وعندما قيل له عد إلى الوراء فمكانك فى الخلف رفض وقال: لقد رفضت أن أكون معيداً فى معهد الكونسرفتوار وفضلت أن أعمل فى فرقه استعراضية، والطبلة هى روح وعقل الراقصة وعلى الراقصة أن تنظم حركاتها على نغمات وتقسيمات الطبلة وليس العكس لذلك فمكانى هنا أمام الفرقة وليس فى الخلفية.
وما أن رأى البودي جارد مفتول العضلات يأتى تجاهه حتى عاد للخلف خوفاً منه، ومع ظهور الراقصة على المسرح أراد أن ينفذ وجهة نظره بأنها هى من يجب عليها أن تراعي دقات الطبلة وليس هو من يسير وراء حركاتها، فتوعدته وفى نهاية الرقصة جاءه البودي جارد ليحمله ويلقى به فى الشارع بعد أن ضربه بعنف بسبب تمرده.
هذه الكلمات البسيطة التى جاءت على لسان (عبده الطبال) فى البداية تلخص فترة من الزمن عاشها جيل السبعينيات، حيث صنع الانفتاح الاقتصادي طبقة جديدة من أصحاب رؤوس الأموال التى ظهرت فجأة وسميت فى ذلك الوقت بـ القطط السمان، غلبت على تصرفاتهم الفهلوة والجرى وراء الربح السريع بصرف النظر عن الالتزام بمحدادات المجتمع وعاداته وتقاليده، على عكس الرأسمالية الوطنية التى كانت تتكون من رجال الصناعة وأصحاب الشركات الكبرى الذين يسيرون بخطط علمية محددة تتماشى مع متطلبات المجتمع.
هذه الطبقة الجديدة كان عدوها الأول هو شريحة المثقفين الذين يؤمنون بأنهم أصحاب النظريات العلمية التى يجب أن تطبق للارتقاء بذوق الجمهور والمساعدة فى عملية تطوير المجتمع، من هنا أصبح الصراع على أشده بين المثقف و الانتهازي.
يذكر علم النفس أن شخصية المثقف دائماً ما تكون حالمة، ولديها ثقة بالنفس في أنها تستطيع أن تصنع مجتمعاً جديداً يتماشى مع وجهة نظرها فى الأمور الصحيحة، ففي داخل كل مثقف (بيجماليون) خاص به، وهو ما فعله عبده الطبال حيث لم يتسلل اليأس لقلبه، فبعد شفائه من العلقة الساخنة التى تلقاها قرر أن يبحث عن راقصة مغمورة يدربها حتى تترجم أفكاره ويصنع منها نجمه، وبالفعل ذهب إلى الموالد وشاهد راقصة درجة ثالثة شعر بأن لديها موهبة لكنها تحتاج للتدريب، وعندما سأل عنها تقابل مع عادل أدهم (ناصح) زوج أختها متعهد الحفلات وولي أمرها في نفس الوقت، والذى أعلن عن نفسه بمشهد بسيط حيث رحب بالضيف على أنه ضابط وطلب له شربات ثم ما أن تأكيد أنه ليس ضابطاً ولا توجد لديه سلطة حتى قال (سك على المشاريب)، وعندما أخبره عبده أنه يريد الراقصة (مباهج) فى شغل قال شغل يعنى فيها مصلحة؟، هات المشاريب يا ابنى للباشا،هذا المشهد كان كاشفا لشخصية (ناصح) الانتهازي الذى لا يفعل شيئاً دون مصلحة.
هنا بدأ الصراع بين المثقف متمثلاً فى (عبده الطبال) وبين الانتهازي متمثلاً في ناصح، الاثنين يتصارعون على (مباهج) الراقصة الفاتنة التى تُدر الذهب والفضة، لكن لكل منهم رأيه وقناعاته وهدفه، فـ (عبده الطبال) يريد أن يثبت أن الطبلة أهم من الراقصة ويدلل على ذلك بتحويله (مباهج) من فتاة المولد لتصبح راقصة درجة أولى بسبب نظرياته العلمية في التدريب وأسلوبه في التفكير في سبيل أن (ناصح) يهمه في الأساس ما يعود عليه بالكسب المادي بأي شكل من الأشكال، لذلك يميل لرأي (عبده تارة)، ويقف ضده تاره أخرى حسب المصلحة، ويستخدم أسلوب المسكنة مع (مباهج) تارة ويقوم بتعنيف أختها كي ترضخ لطلباته تارة أخرى المهم المصلحة.
تكمن المشكلة الكبرى بداخل كل (مثقف) إنه أثناء جريه لتحقيق نظريته يهمل الجانب العاطفي بداخله ولا يراه حتى فى عيون الآخرين على أساس أننا فى مهمة مقدسة علينا أن نقوم بها على أكمل وجه، فمع اهتمامه بـ (مباهج) أثناء التدريب شعرت أنها تحبه وصارحته بذلك، لكن نشوة النجاح أنسته الحب وتعامل معها على أنها مشروع وليس إنسان له قلب ومشاعر، مما جعلها تستجيب لدعوة أحد المقاولين الأثرياء (أبو الهدد) بالرقص عنده في سهرة خاصة وعندما اعترض (عبده) على الذهاب ظهر له (ناصح) بألاعيبه وأقنعه بالذهاب معها للحفل حتى تكون تحت رعايته لكن المقاول (أبو الهدد) أعجب بـ (مباهج)، وأراد أن يأخذها لنفسه وأصبح شديد الخصومة مع (عبده الطبال)، فقد تعود (أبوالهدد) ألا يشاركه أحد فيما يريد فهو يشتري أجمل قصر ليهدمه ويقوم ببناء برج مكانه لأنه لا يعرف القيمة الجمالية للأشياء، هو فقط أناني وجاهل لكنه يفهم فى لغة الأرقام جيداً.
باختصار هو إفراز تلك المرحلة، هنا يلتقى الانتهازي مع الجاهل مستغلين (مباهج)، متحدين في كرههم للمثقف الذى حاول العودة مرة أخرى لـ (مباهج) عن طريق الحب، لكن الوقت قد فات والمحددات على الأرض تغيرت، يظهر ذلك جلياً فى مشهد النهاية (الماستر سين) حيث اختار السيناريست مصطفى محرم مع المخرج أشرف فهمي نفس المكان الذى بدأ به الفيلم وهو (الكباريه) الذى يضم المغيبين من السكارى،حيث ذهب عبده الطبال المنهك نفسياً يحمل طبلته ليشاهد مباهج لعلها ترضى عنه، فما أن رآه الانتهازي (ناصح) حتى أشار للبودي جارد الذى أوسعه ضرباً وحمله ليرمي به خارج الكبارية مثلما فعل فى بداية الفيلم.
لكن هذه المرة هو والطبلة، وكان المخرج أشرف فهمي بارعاً فى تصوير تلك اللقطة المعبرة على المستوى البصري، حيث وضع الكاميرا من أعلى لأسفل ليظهر أحمد زكي الملقى على الأرض فى حالة مزرية تعبر عن حال المثقف الذى لم يعد يشعر به المجتمع وأصبح صغيراً جداً فى الكادر، وبين عادل أدهم الذى يرمز للانتهازية حيث يقف فى كامل أناقته وهو يضع الطبلة بجوار زكي وينظر له من أعلى لأسفل نظرة الانتصار والتشفي والسخرية، وكأنه يقول للمثقف هذا ليس زمنك إنما زمننا نحن.