فيروز(4) ..هجرة السريان الكاثوليك للبنان
بقلم : فراس نعناع
كما سار على خُطى القديس السرياني “مار مارون” من براد شمالي حلب السورية، موارنة سوريا إلى جبل لبنان نتيجة الظلم والاضطهاد. سار السريان الكاثوليك لجبل لبنان أيضاً سنة ١٩١٥م إبان المجازر الكبرى التي ارتكبها العثمانيين بحق السريان السوريين. ناجين بأرواحهم، تاركين مدنهم وقراهم وأملاكهم. مُنضوين تحت حماية الموارنة السريان الكاثوليك، و برعايةٍ باباوية للفاتيكان. البابا “بندكت الخامس عشر” والذي أعلن حيادَ الكنيسة والكرسيّ الرسوليّ خلال الحرب العالمية الأولى.
وجبل لبنان كان وقتها (متصرفية جبل لبنان) وبالعثمانية القديمة (جبل لبنان متصر فليغى) وهو نظام أقرته الدولة العثمانية، وعُمل به بعد أحداث ١٨٦٠م في دمشق ولبنان وعرف بسنة “الهبّة” مما جعل جبل لبنان منفصلاً إداريا عن باقي بلاد الشام. تحت حكم “متصرف” أجنبي – مسيحي – عثماني. غير تركي، وغير لبناني تُعينه الدولة العثمانية بموافقة الدول الأوربية العظمى الست.
كان المتصرف الشرعي وقتها أي سنة ١٩١٥م “أوهانس قيومجيان باشا”، وهو أرمني الأصل لكنه عُزل سنتها وانتهى معه عهد المتصرفين الشرعيين ، ليدخل لبنان عهد المتصرفين الأتراك. وتعين “علي منيف بك” من ١٩١٥- ١٩١٧م. في بداية عهده حلّت كارثة طبيعية بجبل لبنان، حيث اجتاحت اسرابُ الجراد سماء الشام مطلع نيسان – أبريل ١٩١٥م، ولم تعمل الدولة العثمانية على مكافحته. فقد كانت منشغلة بالحرب، مما ساعد الجراد على الاستيطان، حيث فقسَ وتكاثرَ ففتك بالمزروعات والأشجار مما جعل جبل لبنان يُحرم من إنتاجه الزراعي طيلة سنوات الحرب.
وبحلول عام ١٩١٧م عين إسماعيل حقي بيك، حيث حلت مجاعة كبرى بالسكان “كما تشير إحدى الوثائق” للدكتور – جورج حنّا – وهو طبيب خدم في الجيش الرابع أثناء الحرب العالمية الأولى تحت قيادة “جمال باشا السفاح” أثناء إجازة قام بها لأهله في بلدة “الشويفات” حيث يصف: “في الثلاثة أيام التي أمضيتها في لبنان، شاهدت ما لم أكن أتصوّر أني سأشاهده، في بلد كلبنان. شاهدت سحناً صفراء كقشرة الليمونة الحلوة، وعيوناً غاب منها النور، وأقداماً متورمة ومنتفخة، وثياباً على الأجسام مهلهلة وقذرة، وهزالاً في الأبدان، هو نذير الموت. شاهدت ولداناً يعضون ثدي أمهاتهم، وقد جف منها الحليب، يمتصون ويمتصون، دون أن يدرّ لهم ثدي أمهاتهم نقطة حليب، وشاهدت أمهات تستجدي القوت لأولادهن، فعزّ عليهنّ القوت.. كان في لبنان حينذاك شيء واحد رخيص هو الموت، كانت التيفوس تفتك بالكبار والصغار. وكانت الملاريا ضيفاً ثقيلاً عند كل عائلة. وكان شبح عزرائيل يرفرف فوق كل بيت، كان الأموات يُدفنون بالجملة. الفقراء منهم يُكدّسون في الطنابر، ويُدفنون بعضاً فوق بعض في الحفر، لا تابوت، ولا كفن، ولا مُشيعون ولا من يُصلّي عليهم صلاة الموت.”
وكان – جمال باشا الملقب “بالسفاح” – قائد الجيش الرابع التابع للإمبراطورية العثمانية، قد منع من دخول المحاصيل الزراعية إلى جبل لبنان، من المناطق السورية المجاورة.
وكانت مجموعة من مواطني بيروت قد حذرت مجلس بلديتها من النقص الحاد من القمح والدقيق مع بداية الحرب العالمية الأولى – نوفمبر١٩١٤، ولم تعد عربات القطارات التي تنقل الحبوب من حلب تأتي بانتظام.
لا توجدُ أرقام إحصائية دقيقة للذين ماتوا إثر المجاعةِ الكبرى ، فهنالك وثائق تُشير إلى 200 ألف و أخرى إلى ربع السكان ، حيث قُدر عدد سكان جبل لبنان ب “400 ألف” نسمة حسبَ الوثائق العثمانية . كما تُشير بعض وثائق إحدى الكنائس بأن الجالية اللبنانية بمصر قامت بتمويل شحن بعض الإمدادات الغذائية إلى لبنان، عبر جزيرة أرواد السورية وإيصالهم لطرابلس شمال لبنان ومن ثم ُسلمت للبطريكية المارونية وبدورها قامت بتوزيعها على المحتاجين.
ضمن كل تلك الظروف القاسية، قام السريان ببداية جديدة ووضعوا قدمهم على قطعة أرض، محاولين بناء ما يشبه البيوت تَقيهم حرَ شمسِ آب، وبردَ ليالي كانون القارصْ، إنه “حي التنك” – حي السريان في بيروت.