أضغاث أحلام
بقلم : محمود حسونة
عجيب أمرنا نحن العرب، نختلف حول كل شيء ولا نتفق على شيء، حتى لو كان عدواً يتربص بنا ويسعى لاحتلال أراضينا ونهب خيراتنا والتحكم في إرادتنا وقرارنا ويسعى لإعادتنا إلى عصور التخلف والهمجية واستعادة أمجاده الوهمية، وأقصد تحديداً الدولة التركية، رغم أنها ليست وحدها العدو الذي نختلف ولا نتفق بشأنه.
تركيا، لا نختلف فقط بشأنها بل أصبحنا منقسمين إلى أقسام وأحزاب وشيع، ولا يستبعد أن نتحول إلى أمة مفتتة وهى أحد الأسباب الرئيسية. البعض منا يرونها الأم الحنون التي تملك مفاتيح تحقيق رغباتهم وأحلامهم السلطوية الطامعة ولذا ارتموا في أحضانها وجعلوا من أنفسهم دمى بأياديها، وهم الإخوان الإرهابيون ومن على شاكلتهم وداعميهم والمتعاطفين معهم، وكل الساعين لعودة خلافة التخلف العثمانية، وفئة ثانية تعرف مطامع الأتراك فينا وترفض عودة الخلافة، ولكن أفرادها يستمتعون بالسياحة فيها وارتداء ملابس مصانعها والأكل على طريقة أهلها، وفئة ثالثة أدمنت المسلسلات التركية و وصلت إلى حد الهوس بنجومها، وهذه الفئات الثلاث تتلاقى في النتيجة وان اختلفت السبل. وبيننا فئة رابعة تدرك أن تركيا عدو لا يريد لنا أي خير وتقاطع منتجاته بكل أشكالها لإيمانها بأن شراء المنتج التركي هو دعم للدولة الساعية لاحتلال أراض عربية وأن مشاهدة المسلسل التركي هو دعم لمنتج يستهدف سلبنا عقولنا ومشاعرنا واختراق إرادتنا.
قبل عامين خرجت دعوات لمقاطعة تركيا سياحياً واقتصادياً، واتخذت محطات تليفزيونية قرارات بمقاطعة الإنتاج الدرامي التركي، وهي الدعوات التي لاقت صدىً طيباً في بعض الدول العربية، ولكن يبدو أننا عجزنا عن الصمود في المقاطعة، فقد تسلل البعض منا مهرولاً إلى المنتج التركي، وخصوصاً المسلسلات حيث واصل بعضنا متابعتها عبر يوتيوب وهو أمر متوقع، خصوصاً وأن بعض القنوات التليفزيونية العربية لم تقاطع وواصلت عرض المسلسلات التركية مخرجة لسانها لأشقائها المقاطعين، ولكن ما لم يكن متوقعاً أن بعض القنوات والمنصات التي كانت رائدة في إطلاق دعوة المقاطعة تسلل إليها هى الأخرى الهوس وعادت لعرض المسلسل التركي من دون ضجيج مثل الضجيج الذي صاحب دعواتها للمقاطعة.
الأسبوع الماضي نشرت صحيفة مصرية يومية موضوعا عن مسلسل تركي تحت عنوان : بعد سنوات المقاطعة والغياب.. الدراما التركية تعاود الصدارة عربيًا بـ (أنت أطرق بابي) على مساحة أعتقد أن كثير من الصحف قد تتردد في أن تخصصها لمسلسل أو فيلم أو مسرحية مصرية، والمثير أن الموضوع لم يتضمن موقفاً مضاداً من تجاوز المقاطعة بقدر ما تضمن ترويجا للمسلسل وما فيه من عناصر إغراء على المشاهدة.
وفِي محاولة لمعرفة مساحة الاهتمام الصحافي بشكل عام بالدراما التركية، بحثت وتجولت لأجد صحيفة تدعى (تركيا الآن) تصدر بالعربية يشغلها كثيرا التفوق الدرامي التركي على العرب، ومما قرأت فيها موضوعا تحت عنوان (الدراما التركية تهيمن على الشاشات اللبنانية)، وهو موضوع منقول عن وكالة الأناضول للأنباء ومصنوع بشكل يثير مشاعر متناقضة من السخرية مما تضمنه من مزايدات والحزن على حالنا الدرامي، حيث تضمن رأيا لسيدة تدعى رنا، ربة منزل، تعلقها بالمسلسلات التركية بـ (الإدمان). وأوضحت أنها تشاهد كل يوم 8 مسلسلات تركية، عبر التلفزيون ويوتيوب، يتراوح مدة كل منها ساعتين تقريبًا، ورأياً ثالثاً تدعى هند تقول أنها تشاهد الدراما التركية لمدة 7 ساعات يوميا، في حين قال رجل يدعى جهاد (66عاماً) أنه يشاهد العديد من المسلسلات يوميا وأنه تعلم مصطلحات تركية.
المضحك أن السيدة الأولى حسب المنشور تشاهد مسلسلات تركية 16 ساعة يومياً وكأنها مخلوق لا هم لديه سوى تقسيم يومه بين مشاهدتهم والنوم من دون أي أفعال أخرى!!، في حين أن الرجل الستيني المفترض أنه ناضج وسنه يفرض عليه الملل من الجلوس أمام التليفزيون، لا يجد ما يشغل نضوجه سوى الدراما التركية!
المبالغة مقصودة والاهتمام الإعلامي التركي بالدراما متعمد، وكله في سبيل تسويق منتج يجمع العالم كله على دوره السياسي المهم، لدرجة أن أحد موضوعاتهم تحدث عن دبلوماسية الدراما وذكر أن مسلسلاتهم تعرضها حاليا شاشات 142 دولة!!
من حق الأتراك أن يتغنوا بأعمالهم ويقولون عنها ما يشاؤون، وفِي المقابل فإن واجبنا هو مقاطعة هذه الاعمال التي تدس لنا فيها أنقرة سماً قاتلاً للانتماء، وتخلف لدى النشء لدينا ارتباطا بهذه الدولة التي تستهدفنا.
الغريب أن دول المواجهة مع تركيا التي تعاني من التجاوزات التركية كل يوم لم تتخذ قرارا لمنع مواطنيها من زيارة تركيا مثلما فعلت مع دول عربية أخرى، ولَم تمنع استيراد منتجاتها ولَم تجبر القنوات التليفزيونية على مقاطعة مسلسلاتها، واعتمدت على حس المواطن الذي لا تشغله مصالح بلاده ومستقبل اولاده.
المصيبة الأكبر أن الانتاج الدرامي لديهم يتزايد في حين يقل لدينا، كما أننا لم نتعلم من الدرس ونسعى لتجويد منتجنا حتى نستطيع ان نشبع جمهورنا وان نخلق لأنفسنا مكاناً خارج المساحة العربية.
إنها مجرد أضغاث أحلام، طالما أننا نحصر حق الانتاج لجهات محدودة ونمنح حق اتخاذ قرار الانتاج لمن لا علاقة لهم بالفن ولا يشغلهم سوى محاباة هذه الفنانة ومنع تلك من العمل وقطع الطرق أمام مواهب كثيرة وخبرات عتيدة تحلم بفرصة.
mahmoudhassouna2020@gmail.com