عصا المصريين ( 6 ) .. شر البلية
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
بدأ عصر حسنى مبارك بمأساة و انتهى بمأساة ، مأساة البداية كانت سبب سعده و مأساة النهاية كانت سجنه.
كانت المأساة الأولى هى اغتيال رئيس الجمهورية على مرأى و مسمع من العالم كله فى لحظة احتفاله بانجازه الوحيد ، و لأن المصريون ( ولاد أصول ) فلم يستعملوا عصاهم ( السخرية ) فى وداع الفقيد ، برغم طول استخدامها فى حياته ، و لم يحقق الاغتيال إلا نسبة ضئيلة من النكات لا تؤهله للتواجد فى قائمة السخرية المصرية.
و برغم استقبال الحاكم الجديد ببعض النكات و إطلاق تسميات عليه – كما هى العادة – إلا أن موجة الإرهاب و توالى حوادثه على مر السنوات منذ اغتيال السادات 1981 و حتى مذبحة الدير البحرى بالأقصر عام 1997 جعلت عصا السخرية عاطلة عن العمل ، كان خطر الإرهاب و تدنى موارد الدولة بسبب إحجام الاستثمار و عزوف السياحة كلها عوامل مكبلة للعصا ، بل شجعت الشعب على الوقوف إلى جانب الحكومة ، و حتى لو لم يقف معها فهو يعانى للحصول على الرزق مما يجعل وقته أضيق من أن يفكر فى السخرية.
و برغم أن مذبحة الأقصر هى آخر عمل إرهابى ، وبعدها أعلنت التنظيمات المتأسلمة رسمياً مبادرة وقف العنف ، الا أن حال المصريين لم يتحسن ، فالظروف الدولية كانت معاكسة منذ احتلال الكويت لحرب تحريره ، ثم حصار العراق تمهيدا لغزوه الذى تم فى 2003 ، كل هذه الأحداث أثرت على المصريين اقتصاديا و معنويا . باختصار كان المصريون فى شر البلية ، و بما أن شر البلية ما يضحك ، انطلقت الضحكات مع الثورة.
امتلأ الميدان بالثوار من كل الاتجاهات و الأيدلوجيات و المشارب ، و اتفق الجميع على رحيل النظام و لكن لم يتفقوا على البديل ، و لذا تعددت الأهداف و المطامح و المطامع ، ووسط كل هذا كانت عصا المصريين تلوح فى الافق تضرب بلا هوادة رؤوس النظام ، كان الميدان و كأنه مسابقة فى السخرية : بمجرد أن يظهر شخص يعلق على صدره لوحة عليها تعليق ساخر على الفور تجد آخرين علقوا لوحات عليها تعليقات أكثر سخرية ، فهذا شاب بدا عليه الإرهاق ، يرتدي ملابس رثة بعد أن مكث أسبوعين في ميدان التحرير، وقد رفع لافتة عليها (ارحل بقى عايز استحمى)، وآخر بلافتة تقول (قاعد 13 يوم ما نمتش .. وأنت لسه ما فهمتش)، و في أحد مداخل ميدان التحرير وقف كهل يحمل لوحة كتب عليها (آخر طلعة جوية هتكون على السعودية).
و بمجرد إطلاق هتاف ساخر فى مظاهرة تجد عشرات الهتافات أكثر سخرية قد انطلقت بعده ، حتى أن بعض المواقع الإخبارية كانت ترصد نكات المصريين التى أطلقوها فى الميدان من خلال اللوحات و الهتافات و أيضا الرسوم ، و أيضا صفحات التواصل الاجتماعى التى امتلأت بعشرات التعليقات الساخرة لعل أطرفها ما قيل عن سر تثبيت كاميرات التليفيزيون المصرى على مشهد النيل طوال تغطية الأحداث بأنهم (مستنيين السمك يخرج يقول نعم لمبارك).
و هكذا أبهرت الثورة المصرية شعوب العالم بخفة دمها و روحها الساخرة ، و لكن الأكثر إبهارا من السخرية الفردية هو ظهور نوع من السخرية الجماعية ، سخرية تشارك و تتشارك فيها الجموع ، فقد شهد الميدان حفلة زار لخروج مبارك ، و كأنه جن قد لبس جسد المصريين فأقاموا الزار لخروجه ، و شارك العشرات و ربما المئات فى هذا الطقس الساخر ، و هذه مظاهرة أخرى قد خرجت بالحلل ( أوانى المطبخ ) و ثالثة بأنابيب الغاز الفارغة ، حتى أن مجموعة تخصصت فى مثل هذه النوعية من المظاهرات الساخرة.
رويدا رويدا توالت الأحداث و تعددت الحوادث و انتشر الدم ، و اختلف إخوة الأمس فتطاحنت الفصائل و تصارع الشركاء ، إلى أن تولى الإخوان المسلمون رسميا حكم البلاد فزاد الصراع و هبت رياح الكآبة و تكاثفت سحب الاكتئاب ، و حاول الإخوان فرض نمط حياتهم على المصريين و لكن عصا المصريين لا تستقيم مع مبدأ السمع و الطاعة ، فخرج المصريون دفاعا عن عصاهم التى هى عماد حياتهم و جوهر وجودهم . هاهن مثقفات مصريات يحملن أعلى الدرجات العلمية و فنانات مصريات يقفن صباح 30 يونية أمام وزارة الثقافة المصرية يطرقن بالقباقيب فى أولى مظاهرات طرد الإخوان . هل هناك سخرية أكثر من هذا ؟ و هل هناك دفاع عن هوية المصريين أفضل من هذا ؟ . فالسخرية أحد المكونات الرئيسية للهوية المصرية.
أما على مستوى الميديا فكان هناك تجلى آخر لعصا المصريين أو سخرية مختلفة.