الفتى توفيق عبد الحميد والفتى محمود الجندي
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
قال أحدهم ذات يوم: إن مشهدا تمثيليا صادقا في مسرحية جيدة أكثر تأثيرا من ألف خطبة على المنبر، وقد رأيت بعينيَّ التطبيق العملي لتلك المقولة ذات يوم، وأدركت أن الفن الحقيقي يرتقي بالأمم، وما نهض الغرب وقدَّم للعالم حضارته إلا ويسبقه الفن والأدب، وكان المسرح هو الفن الذي يلتقي فيه الفنان بالجمهور بشكل مباشر، وعندما كنت في الجامعة وفي مدرجات حقوق عين شمس كان معي كوكبة من الفنانين المبدعين، أولهم الفنان القدير (سامي مغاوي) الذي كان رئيس فريق التمثيل ومخرج فرقة كلية الحقوق المسرحية، وثانيهما العبقري المبدع ملك المسرح (توفيق عبد الحميد)، وقد سحرني (توفيق) وهو يقوم بدور البطولة في مسرحية (الفتى مهران) التي أخرجها سامي مغاوري، وكان في هذه المسرحية طالبا نابغا خفيف الظل لديه موهبة فطرية وقدرة عالية على الإضحاك اسمه (محمد حسن) أدى دورا كوميديا في هذه المسرحية أتحدى أن يصل فنان كوميدي من الجيل الحالي إلى قامته، ولكن الدنيا أخذته إلى مسارات أخرى.
جعلني (توفيق عبد الحميد) بعد ذلك شغوفا بالمسرح حتى أنني مثلت على مسارح النقابات المهنية وأنا في شبابي، ثم قمت بتأليف مسلسل للإذاعة عن التنظيم السري للإخوان تم إذاعته منذ سنوات في شهر رمضان، حيث قام ببطولته الفنان القدير (طارق لطفي) والفنان الأردني الموهوب (منذر رياحنة)، وكان أن قمت في هذا المسلسل بدور صغير كان من المفترض أن يؤديه أحد الفنانين المعتمدين بالإذاعة ولكنه غاب يومها فألزمني المخرج صفي الدين حسن بالقيام بدوره، ولكنني اشترطت عدم الإعلان عن ذلك، وكان الدور للشيخ (محمد أبو زهرة) أحد الفقهاء الكبار عليه رحمة الله.
وظللت على شغفي بالمسرح ولا يزال المسرح يترك في نفسيتي تأثيرا كبيرا، وكنت في فترة كبيرة من فترات حياتي من رواد مسارح الدولة، وكان من حظي أن أحد أصدقائي وهو الصحفي الكبير (محمد جمال المعدول) أحد أبناء روزاليوسف، والذي أصبح رئيسا لمجلس إدارتها عام 2013، كان في شبابه يعمل مديرا لمسرح صبحي، إذ تربطه بالراحل الكبير لينين الرملي صلة نسب، وكان من آثار ذلك أنني كنت دائما من الجالسين في الصف الأول في مسرحيات (صبحي ولينين)، فوقعت أسيرا لصبحي وطريقته الجديدة في الأداء الكوميدي، وكان صبحي في كل مسرحياته حريصا على تقديم قيم عليا سواء ما يتعلق بعلاقة المواطن بالسلطة، أو علاقة الإنسان بمفاهيم الحرية والمال والقوة.
وذهبت أيام صبحي ومسرحه، ذلك المسرح الذي رأينا فيه وتعرفنا على ممثلين جدد أصبحوا فيما بعد علامات في الفن والكوميديا مثل (شعبان حسين ، وهاني رمزي ، وعبد الله مشرف)، وغيرهم كثير وكثير، ثم حدثت في حياتي أشياء كثيرة جعلتني أنقطع عن المسرح وأيامه إلى أن جاء عام 2014 وسمحت لي الظروف أن أحضر مسرحية (اللي بنى مصر) التي قام ببطولتها الراحل الجميل محمود الجندي، وأظنها كانت ليلة رائعة تلك التي ذهبت فيها إلى مسرح فاطمة رشدي بالمنيل لأشاهد تلك المسرحية، والحق أن هذه المسرحية لم تلق عناية في الإعلان عنها في وسط الإنشغال بالحالة السياسية الجامحة في مصر وقتها، وقد قام ببطولتها مع الفنان الشاب (محمود الجندي) مجموعة من الممثلين الشباب ، وليس لك أن تتعجب وأنا أصف محمود الجندي بأنه الفنان الشاب، ولا تظن أن الشاب هنا من “الشَيْب” بل هو من الشباب، ذلك أن من وهبهم الله قلوبا حية ومشاعر راقية لا يشيبون أبدا مهما مر عليهم الزمن، هل سمعتم عن روح غزاها الشيب؟! الشيب لا يصيب إلا الأبدان لأن الزمن يمر على الجسد فقط ولا سلطان له على الأرواح، ومع ذلك فإن شباب الروح ينطبع على الجسد، فترى صاحب الروح الصافية الرائقة الراقية وقد استنار وجهه واستدار عمره فعاد إلى شبابه الأول، وهكذا رأيت محمود الجندي في مسرحيته، وحين سألته ـ وسأله غيري: نراك شابا كما كنا نراك في سنواتك الأولى في الفن؟ قال: لأنني أنام وليس في قلبي كراهية لأحد، ومع محمود الجندي في مسرحية (اللي بنى مصر) أدركت أنه وصل إلى سن الحكمة التي يتألق فيها الفنان فيرتقي إلى درجة من الإبداع لا يدانيه فيها أحد، ومعه بكيت على حال مصر وما وصلت إليه بفعل أبنائها، بكى محمود الجندي بصدق وهو يؤدي دوره فأبكاني وأبكى جمهوره، ولكنه بكى كما يبكي الرجال، والرجال حينما يبكون لا تُذرف الدموع من عيونهم، ولكنها تندفع من قلوبهم فتتسلل من مآقيهم عزيزة فعزة النفس تكاد تمنع انسكابها، عزة نفس الرجال تجعلهم وهم يبكون تنفرج أساريرهم بابتسامة هي أقرب للصمود والتحدي منها إلى الضعف والاستسلام، وهكذا بكى محمود الجندي، ومع بكائه إذا به يفجر في المسرح عاصفة من (الضحك) من مشهد عبقري أداه ببساطة مذهلة، ولكنه ضحك كالبكا.
في تلك المسرحية ثق أن الأمر سيختلط عليك، هل هذا الرجل الحزين هو محمود الجندي أم أنه طلعت حرب، وحينما تتعايش مع الأحداث ستنسى تماما محمود الجندي ولن يكون أمام نظرك إلا طلعت حرب (اللي بنى مصر) تدور الحياة تحت تمثاله في ميدانه الشهير، فيشهد التمثال من مكانه مصر التي تغيرت، ويشتد كربه وهو يرى الشباب العاطل الذي يبحث عن فرصة عمل، والشباب الذي يبحث عن شقة ليتزوج فيها، والشباب الثائر الذي يرفض كل شيئ للا سبب، كل مصر كانت تحت التمثال، حتى رجال الفساد وأساطينه، هؤلاء الذين أفسدوا كل شيئ حتى المعاني الجميلة للحياة، فأصبح القبح بديلا عن الجمال، والتطرف بديلا عن التسامح، والسرقة تحت غطاء الاستثمار منهجا، تجمعت كل هذه الأشياء في لحظة فريدة في الكون حول تمثال طلعت حرب فتحرك الحجر، وانتفض التمثال، وكيف لا يتحرك الحجر وهو الذي قال الله عنه (وإن منه لما يهبط من خشية الله).
تحرك تمثال طلعت حرب وتكلم، وأخذ يجوب القاهرة التي قهرناها، فتقابل مع شاب وخطيبته يسعون على أرزاقهم فيجدون الأبواب مغلقة إلا أن يتنازلوا عن قيمتهم كبشر، والتقى بأحد رجال مصر الذين كانوا يأملون أن تعود مصر سيرتها الأولى فتنهض وتأخذ بمنهج طلعت حرب في الإقتصاد، حتى أنه من فرط تأثره بطلعت حرب أصبح أحد القابعين ليل نهار تحت تمثاله يشكو حاله له، ويبكي له أوجاع مصر، ويبثه شجونه إذ حصل على الدكتوراة ومع ذلك لا يجد عملا! وحين يتعرف الثلاثة نفر على تمثال طلعت حرب الذي دبت فيه الحياة، يطلب منهم أن يأخذوه إلى مصر ومؤسساتها، ويالها من حسرة سيطرت على اللي بنى مصر وهو يجد أن مصر تراجعت في كل شيئ وعن كل شيئ، وحين يذهب إلى (ستوديو مصر) ينتابه الذهول مما وصل إليه حال السينما، ويقارن بين هذا المشروع الذي أنشأه ليرتقي بوجدان المصريين وثقافتهم، ويكون في ذات الآن مؤسسة اقتصادية كبيرة، حتى انه قال لمرافقيه: لقد كانت السينما هي المصدر الثاني للدخل في مصر بعد السياحة، فما الذي حدث لها، رأى التمثال الحي أصحاب محلات الجزارة وهم يتحكمون في السينما فينحدرون بها إلى أسوء منحدر! وهكذا ظلت الحسرة تناوش قلب طلعت حرب (التمثال) وهو يرى مصر أخرى لا يعرفها ولم يرد في باله أبدا أن تكون هى، وبعد أن تثاقلت عليه الهموم مما رآه قرر أن يعود مرة أخرى تمثالا من حجارة في مكانه المعهود، فلعل الحجارة تتحمل ما عجز القلب الحي عن تحمله.
ولا يبقى لي إلا أن أشيد بإخراج المخرج الشاب الرائع (إسلام إمام) الذي أجاد تحريك الممثلين على خشبة المسرح، ورغم قلة الإمكانات إلا أنه تعامل بحرفية شديدة مع المتاح له، وقد أمتعني الممثل المبدع (هشام إسماعيل) الذي قام بدور الشاب العاطل الذي يبحث عن فرصة عمل لائقة وشقة يتزوج فيها، إلا أن شخصيته التي تعرفت عليها في دور (فزاع) في مسلسل (الكبير قوي) كانت طاغية فلم يستطع أن يمحوها بدوره هذا، ولاشك أنه يحتاج إلى جهد جبار ليتخلص من تأثير دور (فزاع) على الجمهور، ومع هشام إسماعيل كان الممثل (مدحت تيخة) مبهرا في اندماجه في دور الدكتور العاطل المحب لطلعت حرب، ولكن أكثر من لفت نظري في مجموعة الشباب الذين قاموا ببطولة المسرحية فتاة غير عادية اسمها (سعاد) ولا أعرف بقية اسمها، فلو تنبه أحد لموهبتها فإنني أكاد أجزم أنها ستكون صاروخا كوميديا لا مثيل له في السينما والمسرح، وأخيرا فلكل الفريق وعلى رأسه محمود الجندي أقول لهم شكرا لكم فقد كنتم عظماء، ولكن هل شعر بكم أحد؟!