بقلم : أحمد سعد الدين
(الماستر سين) .. كلمة تُطلق على مشهد معين يستطيع أن يلخص حبكة الفيلم ويكون فيها الممثل فى قمة أدائه، ويستطيع المخرج تطويع كل شيء داخل الكادر لصالح القصة والممثل والحوار الذى يؤديه به، كأن يختار المكان الموحي وزوايا التصوير المختلفة التى تبرز خلجات وجه النجم، سواء عبر حجم الكادر أو حركة الكاميرا صعوداً وهبوطاً، وتوظيف جميع الحاضرين فى المشهد لجذب المتفرج وتحقيق تأثير أعمق فى وجدانه، وتعتبر قمة النجاح للمخرج والمؤلف والممثل أن يعيش مشهد الماستر سين في قلوب وعقول الجمهور لأطول وقت ممكن، ولذلك من الأفضل أن يحمل هذا المشهد دلالات ورموز لها انعكاسات واقعية تمزق الُمشاهد بشكل يومي أو مباشر، ويتوقف ذلك على ثقافة المؤلف وحرفية المخرج وبراعة الممثل.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر فى فيلم (ضد الحكومة) بطولة أحمد زكي ولبلبة تأليف بشير الديك ومن إخراج عاطف الطيب، استطاع صُناع العمل أن يقدموا مشهد المحكمة فى 6 دقائق بحرفية عالية استحوذت على حواس المتفرج الذى لا يزال يحفظ الحوار ويتمثله في وسائل التواصل الاجتماعي حتى الآن بعد ٢٨ عاما من العرض الأول، وهو ما يطرح سؤلاً فى غاية الأهمية: هل براعة تجسيد أحمد زكي للشخصية هى التى أثرت فى المتفرج، أم كان للمؤلف والمخرج يد فى ذلك؟.
من المتعارف عليه أن سيناريو الفيلم يبدأ بفرشة (أو مدخل للتعريف بالشخصيات الرئيسية) لا تتعدى 20%، ثم تبدأ العقدة فى الصعود وتستحوذ على 60% من الأحداث، ثم تبدأ مرحلة فك العقدة فى الجزء الباقى 20 % حتى نصل إلى النهاية التى يجب أن تكون قوية حتى تظل حاضرة في ذهن الجمهور وهو يغادر صالة العرض.
بدأ الفيلم باتوبيس طلاب إحدي المدارس ذاهبا في رحلة، لكنه يصطدم بأحد القطارات ما أسفر عن وفايات وإصابات شديدة بين التلاميذ، وهنا يظهر أحد المحامين (مصطفى خلف) أحمد زكي، المتخصص فى قضايا التعويضات والذى يعيش حياة المجون والسهرات المشبوهه، ويبدأ رحلة البحث عن ملفات التلاميذ واصطياد التوكيلات من أولياء الأمور لرفع قضايا التعويض التى كانت منتشرة نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، والتى أطلقت عليها الصحف اسم (مافيا التعويضات).
أثناء رحلة البحث في أهالى التلاميذ المصابين بالمستشفيات يقابل طليقته وحب عمره تجلس بجوار ابنها الذى أصيب فى الحادث، ليبدأ الصراع الدرامي في الصعود بشكل مباشر، فطليقته تزوجت من أحد كبار الأطباء وهو أيضاً عضو بارز فى حزب سياسي ولديها صبي عمره 14 عاماً، ما جعل (مصطفى) يبحث عن تاريخ ميلاد الفتى ليتأكد أن هذا الصبي هو ابنه وليس ابن طليقته فقط وهى نقطة التحول في حياة هذا المحامي العربيد الذى يفيق ضميره رغماً عنه، فبعد أن كان قد دخل هذه القضية بحثاً عن مكسب مادي يأخذه بأى طريقه أصبح الآن أبا لأحد ضحايا الحادث.
لكنه يصطدم بأستاذه فى القانون يقف أمامه كـ (خصم) فى القضية مدافعاً عن الحكومة التى تريد غلق الملف بتحميل الخطأ لسائق الأتوبيس، أو عامل التحويلة، لكن (مصطفى) يذهب فى الطريق للنهاية ويطالب باستدعاء الوزراء المسئولين للوقوف والمساءلة أمام القاضى فى إهمالهم، مما يفتح عليه النار فى جميع الجبهات، وهو ما نكتشف معه أن (مصطفى) كان أحد وكلاء النيابة الذين تعرضوا لمؤامرة أطاحت بمستقبله وألقت به فى الشارع فخسر عمله وبيته وزوجته، وفقد الأمل فى وجود المستقبل لأنه لن يستطيع إصلاح الكون، وتلك هى النقطة الأساسية أو الآفة التى أضاعت المجتمع.
حينما هزم اليأس والإحباط الشباب المثقف الواعي الحالم، ليهجروا مسيرتهم ويرضخوا تحت (نير) الواقع المرير ليتحولوا لمجموعات من الفاسدين المفسدين حتى يستطيعوا التعايش معه، ليصبح المال وتحقيق الرغبات بأي طريقة هو المحرك الأساسي لامتهانه المحاماة، ومع شدة الضغط عليه من الحكومة بجميع أجهزتها مقابل القضية التى أصبحت شخصية إزداد الرجل صلابة وكأنه يريد أن ينفض عن قلبه الفساد الذي قيد ضميره لسنوات.
جاء مشهد النهاية تجسيداً لذروة الأحداث، واختار عاطف الطيب وبشير الديك أن يكون فى المحكمة وكأنه يلوذ بالقانون ليعيد الحياة لنصابها الصحيح، وليتطهر من لامبالاته مما مرت بمصر من أحداث جسام ،فجاءت الكلمات مزلزلة على لسان مصطفى:
انا مثال للمحامى الفاسد .. بل أكثر فسادا مما يتصوره أستاذى
انا ابن لهذه المرحلة والمراحل التى سبقتها
تفتح وعيى مع التجربة الناصرية، آمنت بها ودافعت عنها، فرحت بانتصارتها وتجرعت مرارة هزائمها وانكسارتها.
هنت عندما هان كل شيء، وسقطت كما سقط الجميع فى بئر سحيق من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة.
أدركت قانون السبيعنات ولعبت عليه وتفوقت.
تاجرت فى كل شيء فى القانون والأخلاق والشرف.
أنا لا أنكر شيئا ومستعد للحساب وتحمل المسئولية.
بل أكثر من ذلك أعترف أمامكم أننى دخلت هذه القضية طامعا فى مبلغ تعويض ضخم لكنى اصطدمت بحالة خاصة، شديدة الخصوصية.
جعلتنى أراجع نفسي، أراجع موقفى كله، أراجع حياتى وحياتنا.
اصطدمت بالمستقبل.
كلنا فاسدون.. نعم كلنا فاسدون.. لا أستثنى أحداً.. حتى بالصمت العاجز.. الموافق، قليل الحيلة.. كل ما أطالب به أن نصلى جميعاً صلاة واحدة، لإله واحد.. إله العدل.. الواحد، الأحد، القهار.. لست صاحب مصلحة خاصة، وليس لدى سابق معرفة بشخوص الذين أطلب مساءلتهم، ولكن لدى علاقة ومصلحة فى هذا البلد.. لدى مستقبل هنا.
هذه الكلمات القاسية هي فى حقيقتها محاكمة لجيلٍ كامل ولد نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، عاش حلم ثورة يوليو وانتشارها فى المنطقة العربية، لكنه استيقظ من نومه ذات يوم على هزيمة 67 التى كسرت هذا الحلم وصنعت بداخله شرخاً كبيراً لايزال أثره حتى اليوم.
رغم انتصار أكتوبر العظيم إلا أن مشكلة الانفتاح الاقتصادي قد غيرت فى تركيبة المجتمع وأخذت كثيراً من الطبقة الوسطى، وخاصة طبقة المثقفين الذين أصابهم الإحباط عندما لم يعودو قادرين على أداء أدوارهم فى توعية وحماية المجتمع، وتعاملوا بلامبالاة فانتشر الفساد بشكل كبير، احتاج المثقفون صدمه عنيفة ليفيقوا من سُباتهم العميق، وهي الصرخة المدوية التى عبر عنها الثلاثي (بشير الديك وعاطف الطيب وأحمد زكي) فى مشهد المرافعة داخل المحكمة.
رغم براعة أحمد زكي، إلا أن كلمات بشير الديك نفذت لوجدان الجميع، وجاءت كاميرا عاطف الطيب لتختار الزوايا الرأسية والمنخفضة لتضاعف أهمية الحدث، تدور بين الجالسين وكأنها تستنطقهم وتعود لوجه أحمد زكي المعبر عن كل حرف تصرخ به روحه، لذلك أصبح هذا المشهد أيقونه سينمائية لن تمحى من وجدان الجمهور مهما مر الزمن!.