بقلم : محمد حبوشة
من الفضائح الأخلاقية إلى الفساد المالي، تلك هى نيران الحرب الأهلية الجديدة، التي انطلقت مؤخرا على أسنة رماح الانقاسامات الحادة داخل الجماعة الإرهابية التي حاولت أن تغطى على العواصف التي اجتاحتها بإطلاق شررها في الاصطفاف من جديد مع الوصول إلى اليوم 20 سبتمبر، والذي حددوه موعدا نهائيا لما يسمى بانتفاضة غضب مكتوم ضد الدولة المصرية، والنتيجة أن الشارع المصري هو الذي أبى المشاركة في هذا النوع من العبث، ليثبت للعالم أجمع أن جماعة الإخوان الإرهابية تعاني من حالة انقسام حادة في صفوفها بسبب الخلاف حول المصالح المالية وخلافات أخرى تنظيمية وفكرية.
حالة من التمزق والتفكك التنظيمي والفكري، كما بدت لنا على شاشات الفضائيات خلال الأيام الماضية، تؤكد أن عملية الانفصال والانشقاق أو الطرد المتعمد لمختلف العناصر تعدها قيادة الإخوان نوعا من تحصين التنظيم، أو ما تبقى منه في محاولة لاستكمال مشروع الجماعة التخريبي لاسيما داخل مصر، خاصة أن الجماعة الإرهابية الآن بصدد طرح مشروع للمحافظة على العناصر الموالية لها.
الجماعة الإرهابية تسعى من خلال هذا المشروع لتجنيد واستقطاب جديد يستهدف الأجيال التي لم تتأثر بما يطلق عليه (الربيع العربي)، وكانت في مرحلة الطفولة ولم تعِ ما فعله الإخوان في مصر والمنطقة العربية، لكن تداعيات الخلافات التنظيمية والفكرية داخل الجماعة الإرهابية، طفت على سطح الأحداث كما ظهر أمامنا من خلال أحاديث الإرهابي الإخواني (صابر تليمة) مدير مكتب يوسف القرضاوى السابق، وعضو مجلس شورى الإخوان، حيث بدأت أتون الحرب الأهلية داخل الجماعة من خلال تلك المعارك الكلامية والتراشق والاتهامات، عندما هاجم (تليمة) كل من آيات عرابى، أحد حلفاء الإخوان، وصابر مشهور الإعلامى الإخوانى، وقال عبر صفحته الرسمية على (فيس بوك): (نرفض أن يتكلم فى الدين آيات عرابى وصابر مشهور فالمبدأ واحد لا يتجزأ)
(آيات عرابى) والمعروفة بسلاطة اللسان، ردت الهجوم بهجوم أكثر عنفا، فكتبت على صفحتها فى رسالة وجهتها لمدير مكتب يوسف القرضاوى السابق: كلمتين لعصام تليمة: (لو كان عصام تليمة عالماً لعرفنا له مقامه ولوضعناه فوق الرؤوس ولخاطبناه بما يليق به، لكنه يكذب فيما يعرفه بسطاء المسلمين أمثالى، فيقول إن أبا بكر رضى الله عنه حارب مانعى الزكاة من أجل الفقراء، وأنه من الممكن عرض الشريعة على الشعب فى استفتاء، وهى مجموعة من الكوارث).
وأضافت عرابى فى رسالتها: (البعض يلتمس العذر فى هذه الكوارث تحت دعاوى)، لأنه لا داعى لشق الصف، وهو مبرر شديد السطحية، فما قيمة حياتك ذاتها إن عبث أحدهم بدينك، والبعض الآخر يقول يجب أن تكونى متخصصة لتتحدثى، لكن يبدو الفارق بين ما أقول وبين من يدعوننى إلى الدراسة هو أنهم أقل من المسلمين البسطاء فى معلوماتهم، فهناك من عبث فى مكونات الإسلام لديهم: المشكلة فيما رددت به على عصام تليمة، ليست فى أنه يحتاج لعالم ولا لأنه شقاً للصف كما يقول البعض، بل المشكلة أن عموم المسلمين الآن اختلفوا كثيراً عن عموم المسلمين منذ قرنين، فأصبحت الأكاذيب – لاحظ تقول الأكاذيب – التى يقولها (عصام تليمة) وأمثاله من الطلاسم والأمور المعقدة بالنسبة لهم الدين أصبح غريبا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فالكذب والاعوجاج العقائدى الذى يمارسه (تليمة) ليس أمراً هيناً ولن يمكن إمراره، وسأقف فى وجهه.
ولنقف هنا مليا لنتأمل قليلا قول (آيات عرابي) تلك التي عرفت بسلاطة لسانها حينما سلطت على واحد من أكثر المزايدين على الجماعة، وهو مايعكس بالضرورة طبيعة الخلاف الحاد فى ظل أن المعسكر الذى يتحرك منه عصام تليمة وهيثم أبو خليل (القيادات وحلفاء الإخوان) يختلف عن المعسكر الذى تتحدث منه (آيات عرابى والمجلس الثورى التابع للإخوان)، وكل ذلك يحدث وسط تفجر خلافات بين صغار السن الموالين للتنظيم وقياداته الإرهابية، والتي تكون على إثرها ما يعرف لدى التنظيم بـ (جبهة الشباب)، في مقابل جهة (الحرس القديم)، التي كان يتزعمها الإرهابي محمود عزت، قبل القبض عليه، وهو كان المسيطر فعليا على تنظيم الإخوان محليا ودوليا، وعلى أثر وقوع عزت في قبضة الأمن انطلقت شرارة انقسامات داخلية وخارجية، داخل الجماعة وظهرت على السطح تلك الخلافات التي كانت مكتومة وغير معلنة، وهو ما يعد مؤشرا مهما على الضعف والانهيار الداخلي لدى الجماعة الإرهابية.
ولعل قرار تعيين القيادي إبراهيم منير، نائب المرشد العام، وأبرز قادة التنظيم الدولي، قائمًا بأعمال المرشد، عقب اعتقال القائم السابق بأعمال المرشد العام محمود عزت بداية سبتمبر الحالي هو ماحرك العاصفة أكثر، فقد لقى رفض قطاع كبير من شباب الإخوان، وهذا الرفض ظهر بوضوح من خلال بيان نشره حساب مرتبط بالجماعة على موقع (تليجرام)، تحت عنوان (هذا ما جناه منير وحسين)، في إشارة إلى القيادي إبراهيم منير، وأمين عام الجماعة محمود حسين، وحملهما البيان مسئولية الانقسامات المتتالية التي شهدتها الجماعة، وقارن البيان بين أداء الجماعة في فترة تولي محمد مهدي عاكف، منصب المرشد العام للجماعة، وبين أداء الجماعة في الفترة الحالية، التي يتصدر فيها كل من منير وحسين المشهد التنظيمي للجماعة.
غضب شباب الجماعة المتزايد من الشخصيات المتصدرة للمشهد في الجماعة، الذين يعرفون بأنهم (الحرس القديم)، له جذور تتعدى مجرد الاختلاف الحالي في الرؤى والتوجهات، فشباب الجماعة على قناعة أن كل من إبراهيم منير ومحمود حسين، بجانب القياديين محمود البحيري ومحمود الأبيارى، يتحملون مسئولية أساسية في انقسام الجماعة إلى عدة كيانات تختلف في ما بينها أحيانًا إلى حد الصراع.
الظاهر من حالة التراشق الحالية عبر فضائيات تركيا ولندن التابعة للإخوان – التي تابعتها عن كثب – أن انقسامات الجماعة الإرهابية بالخارج تأتي بسبب المصالح المالية والامتيازات بسبب وجود قيادة ضعيفة غير قادرة على السيطرة على التمويلات الخارجية لدعم إرهاب التنظيم داخل مصر وخارجها، وهو ما اعترف به أحد القيادات في تسجيل صوتي أذاعه الإعلامي (وائل الإبراشي) في برنامجه التاسعة مساء أمس السبت، في معرض توقعاته بفشل الحشد المزعوم الذي دعت له الجماعة.
صحيح أن الخلافات الحالية انعكست على فشل دعواى التظاهر والاحتجاج التي أطلقتها الجماعة اليوم 20 سبتمبر – كالعادة – لكن لا ننسى أن جدران التنظيم الإهابي كانت قد تصدعت في أعقاب السقوط الذريع في 30 يونيو 2013، لكن شيئا لم يكن قد بدا في الأفق حتى ظهرت عدة بيانات أصدرتها قيادات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر الثلاثاء الثاني من يوليو 2019 عن خلافات ظاهرة بين أجنحتها، وارتباك عميق في أسلوب التعامل مع التطورات السياسية، وأكدت المواقف التي حملتها بيانات التيارين المتنافسين، الشيوخ والشباب على إدارة الجماعة – وقتها -، وأخرى صادرة عن قيادات محسوبة على كليهما، أن كل طرف يريد القبض على زمام الجماعة في مرحلة ما بعد وفاة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، ومحاولة التغطية على فشل عمليات التشكيك في واقعة موته عبر تقارب مع قوى المعارضة المدنية.
وفي تلك الأثناء دعا طلعت فهمي، المتحدث باسم جماعة الإخوان في بيان له، مساء الأحد الذي سبق (ثلاثاء الكشف والاعتراف) بيومين معارضي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، إلى العمل على وحدة الصف وتماسك اللحمة الوطنية، مؤكدا احترام جماعته للقوى التي اصطفت ضد مزاعم (اغتيال مرسي)، وطالب المكتب العام للجماعة، قبل يوم واحد من بيان مجموعة فهمي التي ترفض علاقة الأول بالجماعة، بتوحيد ما يسمى بـ (المعسكر الثوري).
وأقر البيان الأول في سلسلة بيانات (الكشف والاعتراف) بارتكاب أخطاء في أثناء مرحلة الثورة وخلال فترة حكم الإخوان، داعيا إلى نبذ الخلافات، ومتعهدا بأن الجماعة سوف تبتعد عن العمل الحزبي وتبقى تيارا وطنيا عاما له خلفية إسلامية، مع السماح لأعضائه بممارسات العمل السياسي من خلال أحزاب وحركات أخرى، ولقد أوضح متابعون في هذا الوقت أن تدهور وتفكك تنظيم الإخوان دفعا أجنحته إلى التفكير في البحث عن قضية جديدة تهدف إلى حشد الجماهير والنخب المعارضة خلفه، وبدت (أيقونة الرئيس الشهيد) يمكن أن تحقق هذا الهدف، اتساقا مع مسارات المظلومية المعروفة عن الجماعة.
لكن فحوى تلك البيانات التي أشارت إلى تفكيك الجماعة على صخرة الانقسامات أشارت إلى ما يمكن وصفه بـ (تنافس الجبهات المختلفة) على السبق لكسب التيار المدني في مصر وخارجها، ومن داخل الفصائل الإسلامية، التي أعلنت عن فض شراكتها مع الإخوان، على خلفية تشبثها بمطالب أحادية تتعلق بمصالح الجماعة ورؤيتها المنفردة للأحداث وأهدافها في الثأر لعزلها عن السلطة، واعتادت الجماعة إطلاق قضية تجمع حولها العامة، مثل تطبيق الشريعة، ومصطلح الإسلام هو الحل، والشرعية، وعودة مرسي، وما إلى ذلك من مسمّيات عاطفية وجذابة.
وجريا على نفس النهج حرص الذي أصدروا تلك البيانات على الترويج لفكرة (الرئيس الشهيد) بغرض إنقاذ الجماعة وإخراجها من أزماتها ومحاولة إعادتها للمشهد السياسي، لكن هذه المناورات فشلت في تجميع مؤيدي الإخوان من جديد، وإقناع المعارضة المدنية بالشراكة معهم، ومن وقتها والجماعة تمر بمرحلة عميقة من انعدام الوزن، وتضارب البيانات وصدورها عن أكثر من جناح، وهذا كفيل بالإخفاق وعدم التجاوب معها وإهمال سعيها إلى تصدر المشهد، ومن ثم فإن عبثية المشهد عقدت من مأزق الإخوان، ففي الوقت الذي تتم فيه الدعوة إلى اللحمة الوطنية وتجميع المعارضة، تظل الجماعة غير قادرة على توحيد صفها، ما يثير السخرية من جماعة مشتتة تسعى إلى توحيد قوى أخرى خلفها.
والحقيقة أن الانقسامات داخل الجماعة شهدت تصاعدا كبيرا في عام 2019، من خلال حدثين مهمين ساهما في زيادة الرفض من جانب شباب الإخوان وبعض القيادات في الجماعة، لنهج جبهة حسين وعزت ومنير، الحدث الأول كان تسلم السلطات المصرية، لأحد عناصر الإخوان في تركيا، المدعو محمد عبدالحفيظ، وذلك في شهر فبراير 2019، وهو الحدث الذي أثار غضب القطاعات الشبابية الإخوانية، ودفع بعضهم لبدء فتح ملف ظروف معيشة الإخوان وعائلاتهم في تركيا، ومخاوف هؤلاء من التعرض لنفس مصير عبدالحفيظ، الذي اتهموا جبهة حسين وعزت ومنير صراحة، بتسليمه إلى السلطات المصرية، وعدم العمل بشكل جدي، على حمايته.
الحدث الثاني تم الكشف عنه في يوليو 2019، وكان بمثابة زلزال ضرب قواعد الجماعة، وساهم بشكل أكبر في زيادة نقمة بعض القطاعات الإخوانية، على الجبهة الثلاثية الممسكة بزمام الأمور في الجماعة، فقد ظهر تسجيل صوتي، لأحد أعضاء مجلس شوري الجماعة، ويدعى أمير بسام، تحدث فيه بشكل صريح، عن وقائع فساد مالي ارتكبتها أكبر قيادات جماعة الإخوان في تركيا، وتحديدًا كل من محمود عزت وإبراهيم منير ومحمد البحيري، حيث قال بسام في هذا التسجيل، إن محمود حسين اعترف بشراء شقق في تركيا، من أموال التبرعات التي يحصلون عليها لصالح جماعة الإخوان، وأنه قام بتسجيل هذه الشقق باسمه، وكذا شراء سيارة خاصة بقيمة 100 ألف يورو.
وعلى الرغم من نجاح قيادات الإخوان في لملمة هذا الملف بشكل سريع، إلا أن الكشف عن هذه الفضيحة، أضر بشدة بصورة الجبهة الثلاثية الحاكمة بأمر الجماعة، وفتحت الباب واسعًا، لسلسلة طويلة من الانشقاقات، والتسجيلات المصورة، التي يشتكي فيها عناصر الإخوان في تركيا، من شظف العيش وقسوة الظروف، كما ظهر في فيديوهات عبر برامج (التوك شوز) قبل يوم واحد من دعاوى 20 سبتمبر، في حين تنعم قيادات الجماعة بالأموال والسكن، والجنسية التركية، وفي نفس الوقت حصد المكاسب المالية والامتيازات لكبار قادة الجماعة الحاليين، حتى لو كان هذا على حساب آلاف المنتسبين للجماعة، الذين يعيشون على الأراضي التركية، في ظروف معيشية صعبة، كل تلك الأسباب وغيرها كانت سببا جوهريا في فشل حشد لأنصار الجماعة في مصر اليوم 20 سبتمبر، مايوكد إنهيار التظيم الإرهابي الأكثر خطورة في المنطقة والإقاليم كله.
الشاهد من كل ما مضى أن جماعة الإخوان فقدت أهم ما كانت تفخر به وسط القوى السياسية المصرية في أثناء حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وما بعد حراك يناير 2011، وهو التنظيم المحكم الذي لا يعرف الانقسام ولا تؤثر فيه أي أزمة، وأدى التفكك التنظيمي الذي ظهرت تجلياته في أكثر من مرة إلى تبني تكتيكات متناقضة ومرتبكة، وظهور مناهج بأكثر من قيادة، ما جعل قوى عديدة تفقد الثقة بها وما تطرحه أجنحتها المتنافسة، ويوحي التضخيم المقصود من الجبهات المتنازعة بمحاولة التحرر المقصود من بعض الملفات، ورغبة في التحلل التدريجي من الالتزام بها أمام الأعضاء، فلم يعد ملف الشرعية أو عودة مرسي مثلا قابلا للتوظيف داخل الجماعة.
وظني أن الجماعة الإرهابية أدركت أن استراتيجية تفعيل اللجان النوعية وبعث النشاط المسلح من جهة، والتمسك بأدبيات الجماعة التاريخية من جهة أخرى، لم تسفر عن شيء، ولن تؤدي إلى تقارب مع القوى المدنية من خلال خطاب يزعم الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها، والسعي إلى كسب ثقة الآخرين بإدعاء زهد الجماعة في السلطة والتخلي عن العمل الحزبي في هذه المرحلة، ومن هنا فإن جماعة الإخوان حاولت مؤخرا أن تبعث برسائل في اتجاهات مختلفة ، لتحقيق العديد من الأهداف، فهي تريد نيل رضا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولفت الانتباه بعيدا عن أزماته الداخلية، ولا تخلو الحصيلة النهائية للبيانات من رسائل للسلطة في مصر، تظهر الجماعة كأنها ساعية إلى التهدئة، وهى رسائل لا تلقى صدى على مستوى الحشد الجماهيري الذي خذلهم في 20 سبتمبر الحالي.