قال يوتيوبر قال !
بقلم : محمد شمروخ
حققت شبكة الإنترنت بمواقعها المختلفة للتواصل أحلام كثير من الناس وأتاحت فرص انتشار لم تكن تتاح من قبل إلا بعد طول جهد وصبر، وأهم ما وفرته الشبكة العنكبوتية الاتصال المباشر مع الجماهير صوت وصورة عبر موقع يوتيوب، فليس سوى خطوات متاحة للجميع تصبح بعدها على الهواء مباشرة دون ستوديو ولا منتجين ولا مخرحين وتجهيزات عملاقة.
فقط تحتاج كاميرا متصلة بجهاز الكمبيوتر لتصبح بعدها ممثلا أو مذيعا أو عالماً متخصصا في تقديم برنامج في أي مجال وبالفعل قدم يوتيوب نجوما وحقق شهرة لكثيرين لم يحلموا بها قبله، بل ومنهم من انتقل من شاشات الموبايلات واللابات والتابات إلى شاشات التلفزيونات والسينمات.
ولكن لا شك أن هذا الذي حدث استتبعته فوضى عملاقة إذ لا رقيب ولا حسيب، فلم يعد تقديم المعلومة ولا حتى الموهبة هو الغرض أو الغاية، بل في ظل التنافس المحموم فوجئنا بعواصف جنون حقيقية تجتاح الشبكة العنكبوتية فقد صار الهدف هو كيف تجذب أكبر عدد من المتابعين وتحقيق أعلى نسب مشاهدة ولايكاتم وتشييراتك، وأصبحنا الآن أمام غابة من الهوس لجذب المشاهدات والتفاعلات وتحقيق (الترندات) التى صار السباق المحموم نحو الهوة السحيقة التي تنظر الجميع.
هوه من التسطح والانفلات الأخلاقى والثقافي والاجتماعى، ففي سبيل تحقيق النجومية الكاذبة استخدمت أحط الأساليب وتزييف الوعي بالكذب ومحق أي قيمة إلا قيمة ما سيحققه الـ (يوتيوبر) من مكاسب ناتجة عن اتساع انتشاره الذي يصيبه بأعراض القائد المظفر بالرغم من أن نجاحات اليوتيوبر قصيرة الأجل، فجماهير الإنترنت الهائلة تسيطر عليها رغبة في المزيد من الإثارة حتى يجلس المتابع أكبر قدر أمام هاتفه المحمول فلن يصبر على طول الوقت إلا باستحلاب الإثارة، والإثارة تتطلب التجديد والتجديد يتطلب الغرابة والغرابة تتطلب التعسف والتعسف يتطلب التزوير.
وما النتيجة؟!
النتيجة أننا مهددون الآن بقدوم آجيال مشوهة التفكير مشوسة الوعي، ففي سبيل نجاح (اليوتيوبر) وجدنا من يعبث بحياة الناس الشخصية، بل ووجدنا من يعبث بحياته هو شخصيا فينتهك حرمة نفسه بنفسه ومازال يخف ويسف ويسخف حتى يهجره الناس إلى خفة وإسفاف وسخافة أكثر إثارة منه.
وكلمة إثارة هنا قد تذكرك بأيام البحث عن أفلام الجنس في بداية عصر الانتشار الكبير للكمبيوتر، ولكن أفلام الجنس نفسها فقدت إثارتها فلم تعد أبدا كسابقها مهما أمعنت فبي الإثارة حتى بعد أن تم إحاطتها بأجواء انتهاك المحرم حتى تحافظ على مشاهداتها، ولكن مع التكرار بدأ الناس يملونها ولكن لا حد أقصى للحرام فقرر سادة اللعبة التركيز على المناطق الاجتماعية والدينية والسياسية المحرمة على الموال نفسه ولكن بشكل أكثر واحترافا جذبا للإثارة.
ومارس صناع الإثارة دورهم باقتدار في توجيه فيالق الحمقى – كما وصف الروائي والفيلسوف الإيطالى إمبرتو إيكو مدمنى التواصل الاجتماعى – هم حقا حمقى .. ألا تراهم بقضون الساعات وراء البحث عما يثير حتى أنهم يضطرون أضطرارا أمام غزو النوم لإغلاق أجفانهم قبل هواتفهم.
فنحن للأسف من يشجع هؤلاء على استغفالنا بإصرارنا على الركض اللاهث خلف منتجاتهم التافهة حتى لو بدافع الرفض والهجوم، ذلك لأن الرفض والهجوم هما أهم عاملين لإنجاح هذه الحماقات.
يحدثونك عن فلان وفلانة وعندما تسأل من هو؟ ومن هي؟
فيقولون لك يوتيوبر!!
وما اليوتيوبر؟
هنا تتسع الأعين دهشة من سؤالك سواء كان بغرض المعرفة أم الاستكار، وعندما تحاول أن تتعرف على هذا اليوتيوبر تجده في حضيض التفاهة والسخافة في غالب الأمر إن لم يكن كله، فمن ذا الذي أعطى هذا المتحدث في مقطع فيديو لا يزيد عن ثلث الساعة علم الأولين والآخرين، وما أدرانا بما يردده من معلومات وما هى مصارده وما هي أهدافه؟
والمصيبة العظمى هى أننا نستشعر التوجيه في كثير من أولئك اليوتيوبربين سواء كان حديثهم في السياسة أم في الدين أم في أى مجال.
ولكن تحت ضغط المشهيات في العناوين تفتح الفيديو ليطالعك السيد يوتيوبر بما لم تدر به علما ويتبارى في التسطح بزعم البساطة ومخاطبة الجماهير القابلة للإثارة.
واقرأ التعليقات لتتأكد بنفسك أن التجربة (اليوتيوبرية) قد نجحت بتفوق في نشر أهدافها فالتعليقات مفعمة بالبذاءة والجهل والغضب، لكن أشد ما يثير عجبي هو أن أقرأ في التعليقات رأيا ناضجا عاقلا، ولكنى أكاد أمسك بتلابيبه لأسأله “ما الذي دهاك لتأتى هنا، أفلا يكفى أن تفعل مثلى وتدخل فقط لترصد ثم تخرج سريعا قبل أن تتلوث بهذا الكم الهائل من التفاهة والسطحية والبذاذة والجهل؟!”.
ولكن كلما ازدادت كمية هذا الخليط القميء كلما زاد نجاح اليوتيوبرز، فكثرة التعليقات تعنى كثرة المشاهدات والتفاعلات التى تترجم إلى إعلانات يحصد اليوتيوبر نسبة منها وقد يحقق ثروة هائلة من جراء ذلك.
وهنا يكمن الخطر فالسادة الغامضون القائمون على المواقع (ولا أعنى مديريها المباشرين) هم الذين يرسمون الطريق أمام فيالق الحمقى وهم يتبعون (اليوتيوبريين)، وفي الوقت نفسه يعرضون بضاعتهم في المجالات الأكثر رواجا فخلقوا لنا مجالات تتناحر جريا وراء الكسب في عالم تسيطر عليه العطالة والفراغ، وهما في الشباب أكثر مع الاندفاع الملازم لطبيعة المرحلة، ولا يهم الحقيقة أو الموضوعية أو حتى الأخلاقية لأن البرجماتية الباردة التى تسعى نحو الهدف كسعي المرابي (شايلوك) إلى لحم (أنطونيو) ضحيته في تاجر البندقية هى التى صارت تتحكم في مقاليد العالم الإلكترونى تبعا لسيطرتها على مقاليد الاقتصاد العالمى كله.
فإعادة تشكيل الوعي الذى يخدم أغراض أبناء (شايلوك) الجدد هو المشروع الذي يقف وراءه المدير الغامض لتلك الشبكة، والذي لا نشعر به وكذلك لا يشعر به أولئك الأراجوزات السذج الذين ظنوا أنهم حققوا نجاحا وذيوعا، لأنهم صاروا أكثر تفاهة وجهلا من خلال تفاخرهم عندما يعرف أحدهم نفسه لمن حوله شامخا بأنفه لأنه.. قال (يوتيوبر) قال !!.