رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

الساحر محمود ياسين .. ملك المشاعر

محمود ياسين ..علامة مميزة و مختلفة في السينما المصرية

بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي

كان الفيلم هو (شيء من الخوف)، وكان زمن عرض الفيلم هو 1969 ، وكانت (الدهاشنة) هى القرية التي دارت حولها أحداث الفيلم الذي كتب قصته الأديب الكبير ثروت أباظة، والدهاشنة لمن لا يعرف هى إحدى قرى مركز بلبيس محافظة الشرقية وهى المحافظة التي ينتمي إلى الأديب ثروت أباظة، أما العبارة الشهيرة التي أصبحت أشهر عبارة في تاريخ السينما المصرية هي: “جواز عتريس من فؤادة باطل” كلنا يعرف هذه العبارة ويحفظها عن ظهر قلب، ويكتبها كتاب المقالات عندما يريدون التعبير عن شيء يرفضونه، وفي نفس الفيلم اشتهرت عبارة أخرى صرخ بها الفنان الكبير أحمد توفيق في المشاهد الأخيرة للفيلم، وهي: “أنا ستين عتريس في بعض” .

كانت الشخصيات العملاقة في هذا الفيلم، وعباراته الشهيرة التي جرت على ألسنة الأبطال تجعلنا ننسى أي فنان أدى دورا صغيرا، أو جرت على لسانه عبارة صغيرة، فقد كانت الفنانة الراحلة المبدعة ذات العبقرية الخاصة “شادية” هى بطلة الفيلم، وكان البطل هو الفنان الذي من الصعب تكراره محمود مرسي، أما يحيى شاهين فقد كان هو الشيخ إبراهيم صاحب الخلق والتأثير والمكانة في القرية، وفي الفيلم أيضا، وكان الفنان الكبير “محمد توفيق” هو الأب الضعيف المغلوب على أمره، وكان وكان وكان، وقد استحق هذا الفيلم أن يصبح أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، ومع عبارات الفيلم الشهيرة التي جرت على ألسنة شخصيات الرواية، كانت هناك عبارة أصبحت هى الأخرى شهيرة، رغم أن الذي قالها كان ممثلا ناشئا  لم يظهر في السينما قبل ذلك إلا في بعض الأدوار الثانوية، فمن هو ذلك الممثل؟ وما هى العبارة التي قالها؟.

شيء من الخوف .. فيلم أعلن عنه نجما كبيرا

كان هذا الممثل هو (محمود ياسين) الذي أصبح فيما بعد نجما كبيرا، ثم ارتقى به الحال فأصبح علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية، أما عبارته التي قالها في فيلم شيء من الخوف فهي: “واللهْ ولبستني جلابية العيب يا شيخ براهيم” ورغم أن العبارة عادية جدا، ومن الطبيعي أن ينساها المشاهد تماما، إلا أن ملامح وجه محمود باسين وهو يوجه العبارة إلى نفسه ارتسم فيها الخزي والعار، واستقبل المشاهد تلك العبارة ومشاعره تنتقل من حالة شعورية إلى حالة شعورية أخرى، فذلك الشاب محمود ياسين “علي” الفلاح الشاب الفقير والأهوج حد التطرف حتى أنه تتطاول على واحد من رموز القرية (يحيى شاهين) إذا بنا ونحن نرفض تهوره وقلة أدبه مع الشيخ الوقور، حتى أننا سنكره تلك الشخصية السخيفة التي لم تنتبه للخطر الحقيقي الذي كانت القرية تعيش فيه، إلا أنه عندما نطق عبارته هذه وبان الندم الحقيقي على وجهه إذا بنا نتعاطف معه ونحبه، ونعرف من ملامحه التي ارتسمت عليها الطيبة أنه لم يكن أبدا أنانيا أو صفيقا، ولكنها فورة الشباب فقط.

كل من رأى هذا الفيلم في هذه الفترة توقع أن يكون هذا الشاب الذي أدى دورا ثانويا سيصبح نجما في مستقبل الأيام، ولم ينتظر محمود ياسين المستقبل كثيرا، ولكن اتضح أن المستقبل هو الذي كان يجري وراء محمود ياسين ليلحق به، فمحمود الذي تخرج من كلية الحقوق جامعة عين شمس في منتصف الستينات، وكان عشقه الأكبر للمسرح أصبح هو علامة الإجادة لأي عمل فني يشترك فيه، وطالما أنني ذكرت كلية حقوق عين شمس فيجب أن تعرف أن اللجنة الفنية لحقوق عين شمس في فترة السبعينيات ـ التي كانت فيها بتلك الكلية آنذاك ـ كانوا يفتخرون أنهم ينتظمون بكلية محمود ياسين، كان من تلك الدفعات التي عاصرتها ورأيتها وربطتني بهم بعض الصلات طلبة أصبحوا نجوما في المستقبل، كان منهم الفنان الكبير توفيق عبد الحميد، وكان منهم الفنان المبدع سامي مغاوري الذي أخرج للكلية مسرحية الفتى مهران، وقام ببطولتها توفيق عبد الحميد الذي حصل بدوره فيها على جائزة أفضل ممثل في الجامعات المصرية، وقد لا يسعفني المجال لذكر مجموعة من المواهب منهم من استمر ومنهم من دفعت به الحياة إلى مجالات أخرى، ولكن الذي يجب أن أذكره أن هذا الجيل كان يتفاخر بمحمود ياسين ابن الكلية، وكان طموحات بعضهم تدفعه إلى أن يحلم بأن يكون هو محمود ياسين الجديد ذلك النجم الذي تفجرت موهبته في فترة السبعينيات.

سونيا والمجنون .. واحد من أروع أفلامه السينمائية

والآن جئنا إلى مربط الفرس، ومربط الفرس هو أن محمود ياسين كان يستحق بلا جدال أن يحصل على جائزة الأوسكار ثلاث مرات، ولو كانت هناك جائزة عالمية يتم منحها لأفضل ممثل على مستوى العالم لحصل عليها محمود ياسين عن فيلم (سونيا والمجنون) ثم فيلم (العذاب امرأة) ثم مسلسل (الأبله).

ويبدو أن عام 1977 كان هو عام الإجادة والتفرد لمحمود ياسين، إذ أن (سونيا والمجنون ، والعذاب امرأة) كانا في هذا العام، وفي عام 1978 قام ياسين بدور طه حسين عميد الأدب العربي في فيلم (قاهر الظلام)، وما أن جاء عام 1980 حتى أصبح محمود ياسين موضع حسد كبار النجوم عندما قام بدور البطولة في مسلسل (الأبله) فأبدع بحيث أنه وكأنه قطع الطريق أمام كل النجوم، أو كما يقولون صعد إلى المجد من خلال سلم العبقرية ثم قذف بالسلم بعد ذلك فلم يصل أحد إلى ما وصل إليه، ولا تظن أنني أبالغ، فما كتبته هو الواقع، ومن تصاريف القدر أن قصة (سونيا والمجنون) مقتبسة من رواية الجريمة والعقاب لديستوفيسكي، وكذلك كان مسلسل (الأبله)، وكأن ياسين تعاقد مع ديستوفيسكي عندما كانا في عالم الأرواح ليقدم له هذين العملين الذين يعتبران من أهم أعمال ديستوفيسكي.

قاهر الظلام .. قدم عميد الأدب العربي بشكل واقعي

كانت شخصية محمود ياسين (مختار) في (سونيا والمجنون) شخصية مركبة معقدة، وقد عبَّر عنها اسم الفيلم بـ (المجنون) ورغم أن تلك الشخصية في الرواية الأصلية هي شخصية المثقف الذي له رؤية فلسفية عن الفرد والمجتمع والظلم، إلا أن (ياسين) قدمها في الفيلم بصورة المنحرف نفسيا والذي وصل انحرافه لدرجة ارتكاب الجريمة ليُخلِّص المجتمع من الشر، وقد أبدع (ياسين) في أداء شخصية هذا المجنون، سواء من خلال النظرات الزائغة، والكلام غير المترابط، أو الملامح الحائرة التائهة، حتى أنك تستطيع أن تقول بكل صدق أن (ياسين) كان في هذا الفيلم مجنونا حقيقيا، وياله من مشهد رائع ذلك الذي دار بينه ونور الشريف، الذي كان يقوم بدور المحقق الذي يبحث عن مرتكب الجريمة، إذ أخد نور الشريف يستدرج المجنون واحدة واحدة حتى صرخ ياسين قائلا: أنا ضد الشر في هذه المدينة، ولا أبالغ إذا قلت أن كلاهما (الشريف وياسين) وصلا في هذا المشهد إلى أعلى طبقة يمكن أن يصل إليها ممثل على الإطلاق.

رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي

أما مسلسل (الأبلة) عام 1980 فهو عن ذلك الشاب الثري الطيب الخجول الذي يعاني من صعوبة في النطق فلا يستطيع أن ينطق كلمة واحدة إلا بصعوبة وعناء شديد، وبسبب سوء نطقه يعتقد الناس انه أبلة ناقص العقل فيتعاملون معه على هذا الأساس، وحينما يذهب إلى عمه الذي استولى على ميراثه ليحصل منه على حقوقه يطره عمه، ولكن هذا الشاب لم يستسلم بل وقف في معركة استرداد حقه بصلابة.

لاشك أنني شخصيا تعاطفت مع محمود ياسين، أو الأبلة وهو يؤدي ذلك الدور، وأيقنت أنه أبرع من يؤدي الشخصيات المركبة، حتى أنني عندما قرأت قصة الأبله لديستوفيسكي بعد ذلك كنت أرى أمامي محمود ياسين، رغم أنني كنت قد شاهدت فيلما روسيا عن تلك الرواية في المركز الثقافي الروسي بالقاهرة عام 1972، إلا أن الفنان الروسي الذي قام بدور (الأبله) لم يستطع أن يترجم الشخصية كما أداها ياسين.

العذاب امرأة .. فيلم استحق عنه الأوسكار

ولكن كل هذا كوم وفيلم (العذاب امرأة) كوم آخر، وليت شاشات القنوات تعرض لنا هذا الفيلم باستمرار، ويالقسوة نيللي الفنانة المرعبة وهى تشكك زوجها  جلال (محمود ياسين) في نسب ابنه هشام إليه، وتقنعه أنها أنجبته من آخر، ويرفض ياسين هذا الأمر، ويدخل إلى درجة نفسية يطلق عليها علماء النفس (إنكار الواقع)، ولكن كيف ينكره وابنه أمامه؟! كيف ينكره وزوجته أمامه؟ للعقل وسائل كثيرة في هذا، وكانت الوسيلة المتاحة للأب المكلوم هي أن يفقد ذاكرته، وتعرف الزوجة مدى الجرم الذي ارتكبته حينما ترى زوجها جلال يعمل جرسونا في أحد المطاعم، وينظر إليها ويكلمها وهو لا يعرفها، فقد كان زوجها في دنيا أخرى، دنيا غاب فيها عن حياته السابقة، أما المشهد العبقري في هذا الفيلم الذي يستحق عنه ياسين أعلى جائزة للتمثيل في العالم، فهو عندما بدأ في استعادة ذاكرته، وقد كان هذا المشهد عبارة عن مبارة تمثيلية بين عملاقين، وتستحق عنه نيللي أن تكون الفنانة الأعلى قامة في تاريخ السينما المصرية، وسأحكي لكم عن اليوم الذي شاهدت فيه هذا الفيلم وقت عرضه في إحدى سينمات مصر الجديدة، وكان معي وقتها صديقان لا يزالان في حياتي إلى الآن، كنا وقتها طلبة في الجامعة، وحينما بدأ المشهد الأخير من الفيلم وعادت الذاكرة لياسين وهو يحتضن ابنه بكيت، وحمدت الله أن الظلام كان دامسا فلم ير أحد دموعي، وحينما عادت الأنوار نظرت لصاحبيَّ فوجدتهما يبكيان مثلي.

تعليق 1
  1. tawfekelhufy@gmail.com يقول

    رحمة الله عليه

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.