بقلم : محمد حبوشة
قالها الكاتب الموهوب والسيناريست المبدع عبد الرحيم كمال في (بوست) له على الفيس بوك : (الدراما لا تحتاج أن تتحدث عن طبيب الغلابة، ولا عن بائع فريسكا متواضع ومجتهد، ولا عن سيدة القطار التي دفعت ثمن التذكرة للمجند المهذب، الدراما تحتاج أن تكون دراما بالأساس يكتبها ويخرجها ويؤديها أناس بمهارة الشياطين ورقة الملائكة ومجون وندم الإنسان، حتى يقدموا له ما يحرك إنسانيته الحقيقية وليس مجرد حبة دواء رخيصة تصلح لعلاج كل الأمراض ولا تعالج شيئا في النهاية).
الكلام جاء في معرض السباق المحموم من جانب بعض الفنانين والفنانات الذين راحو يبجلون في شخصيات بعينها ظهرت على سطح الأحداث مؤخرا، وهم طبيب الغلابة الدكتور محمد مشالي، الذي أفنى عمره في خدمة الفقراء والبسطاء من أبناء بلدته، وهو بالمناسبة ليس وحده هو الذي قام بهذا العمل الإنساني فأنا أعرف غيرهم العشرات من الأطباء – في محيطي على الأقل – الذين يقومون بنفس الدور دون إشهار، ليس لأنهم لايعرفون طريق القنوات الفضائية، فعلى العكس تماما فهم يملكون شهرة تفوق طبيب الغلابة بمراحل – ومنهم على سبيل المثال ولييس الحصر العلامة الدكتور مجدي يعقوب – ولكنهم يعملون ذلك لوجه الله لا يريدون شكر من أحد أو تسلط عليهم أضواء كاشفة اعتقادا منهم بأن الحسنة ستزول فور الإعلان عنها.
وكذلك بائع الفريسكا الذي ظهر فجاة وتبنته برامج (التوك شوز) في حلقات مطولة راح فيها يتحدث بفخر عن تجربته في الحياة وتحدي الصعوبات، فهنالك المئات بل الالآف الذين يكدون ويتعبون في سبيل تحصيل جنيهات قليلة يصرفونها على تعليم وعلاج أبنائهم برضا وقناعة كبيرة، وهو في ذات الوقت لايفاخرون بذلك جراء إيمان عميق وراسخ بداخلهم بأن هذا قدرهم الذي كتب عليهم، ومع كل التعب والجهد والعرق الذي يبذلونه في سبيل العيش الكريم تجد على جباههم ابتسامة رضا وأمل في الله سبحانه وتعالي، فضلا عن عقيدة راسخة في قلوبهم بأن الستر من عند المولى عز وجل خير من الدنيا وما فيها من عرض زائل.
أما سيدة القطار التي دفعت للجندي الشهم تذكرة بـ 22.5 جنيه، فهى حالة متكررة تحدث يوميا في القطارات والأتوبيسات وحتى الميكروباصات وغيرها من وسائل النقل المختلفة، وقد شاهدت ذلك بنفسي، حيث تجد كثير من أبناء الشعب المصري يحنون على غيرهم دون رياء أو جلبة أو ضجيج، وعادة ما يعلو جباههم نوع من الخجل أن يراهم أحد ويقوم بتصويرهم ونشر ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهم في ذلك يعطفون على البسطاء وغير القادرين، ولعلهم هنا يضربون المثل في الإيمان العميق دون انتظار مقابل لذلك، لكنه يعكس أصالة ونبل المصريين، الذين يظهرون معدنهم الأصيل في النوائب والملمات التي يمر بها غير القادرين، كما يتجلى ذلك أيضا في الجمعيات الخيرية والبرامج التي تقوم بأعمال خير كثيرة منها (زواج اليتيمات – مساعدة السيدات الغارمات – إجراء جراحات مكلفة – علاج أمراض مستعصية – إقامة مشروعات صغيرة) وغيرها من مظاهر الخير الكثيرة.
كفانا عبثا وسذاجة من جانب أولئك الذين يطمحون في شهرة على حساب الغير، فقد ساءني تركيز بعض الفضائيات والمتاجرة برقة حال هؤلاء الناس، وكذلك كلام وثرثرة بعض الفنانات والفنانين الذين انهالوا في سيل من التصريحات التي جاءت كنوع من الرياء والتزلف بتجسيد شخصيات بعينها مثل (سيدة القطار) حيث راحو يعددون في مناقبها كنموذج للمرأة المصرية التي تتمتع بقدر من الشهامة، ولا أحد يزايد على شهامتها كبنت بلد أصيلة، وقد نالت التقدير من رأس الدولة حتى أصغر مواطن مصري، رغم أنها لاترى أنها فعلت غير واجبها، وقد أعجبني فيها روحها الطيبة وبساطتها وخجلها من الكاميرات التي أحاطهتا باهتمام زائد عن الحد، وكادت تفسد حياتها لولا أن وزير الدفاع قطع الطريق على الإعلام وكرمها، وأرسل رئيس الجمهورية هدية أعرب من خلالها عن تقديره واحترامه لمكانة المرأة كما يرسخ في عقله ووجدانه.
الدراما إذن لا تحتاج كما قال المبدع (عبد الرحيم كمال) إلى نماذج من أمثال هؤلاء، وعبد الرحيم هنا لاينفي القيم الإنسانية في أفعال (طبيب الغلابة – بائع الفريسكا – سيدة القطار)، بل إنه ينطلق من قاعدة أساسية قالها أرسطو في (كتاب الشعر) قبل الميلاد بأكثر من 300 سنة: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، وبالمناسبة ليس كل واقع حدث متكامل العناصر الدرامية التي تصلح كمسلسل أو فيلم أو مسرحية، إذن الدراما أيضا لا تعول على الأحداث الآنية الطارئة، بل هى معنية في المقام الأول والأخير بالتاريخ الاجتماعي والثقافي والفني بشكل واضح، وذلك في ظل تنامي دور الدراما، ومدى تأثيرها في الأجيال الحالية، والذي ينبع من أهميتها كمنتج إعلامي يعنى برصد الأحداث وتطوراتها وانعاكساتها على مجمل الحياة العربية العصرية، ومن ثم أصبحت الدراما كمعادل بصري وثيقة تاريخية ومستنداً بصرياً للتاريخ بتقلباته.
ولعل هذا النمو المطرد لدور الدراما في حياتنا المعاصرة، قد جاء بعد أن أصبحت الفضائيات العربية حالة خاصة وفريدة فى تطور مسيرة الإعلام العربى، منذ عرف العرب الصحافة فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حتى أنه يمكن القول براحة تامة: بأن مجمل التطورات التى أحدثها ظهور الفضائيات العربية فى الشارع العربى، وفى وسائل الإعلام التقليدية منذ أوائل العقد الأخير من القرن الماضى يعادل مجمل التطورات التى شهدها الإعلام العربى منذ ظهوره، ولقد بات لمفهوم الدراما دور محوري في حياتنا المعاصرة وسياقاتها الثقافية المجتمعية، حيث يعتبرها أغلب علماء علم الاجتماع المعرفي “ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني، ومن ثم لا ينبغي أن تستمد موادها من شخصيات أو ظواهر عرضية كما يطالب البعض بتجسيد شخصية (سيدة القطار) أو غيرها تعاملت معها وسائل الإعلام كشخصيات أسطورية خارقة للعادة.
فبحسب أرسطو أيضا: الدراما هى “محاكاة لفعل إنسان” وفى تفسير ذلك ذهب النقاد فى دروب متشعبة، ولعل أقرب تفسير إلى روح العبارة المذكورة ما قيل من أن الدراما تتكون من عناصر جوهرية، ربما أشار لها عبد الرحيم كمال في جملته التي كتبها على النحو التالي:
1- الحكاية.
2- تصاغ فى شكل حدثى لا سردى.
3- وفى كلام له خصائص معينة.
4- ويؤديها ممثلون.
إذن المحاكاة عند أرسطو لا تعني تصوير الواقع أو نقل الطبيعة نقلاً حرفياً – كحالة سيدة القطار أوغيرها -، وإنما تعني تمثيل أو محاكاة الحياة أو الحدث الذي يمكن أن يحدث، أي أن الفن هو إعادة إبداع؛ أي أنه إكمال ما لم تكمله الطبيعة وإضافة لإحساس المؤلف ونظرته الفكرية وتصوره الشخصي.
لقد اتخذت الدراما أشكالا مختلفة من عصر إلى عصر، تناسبا مع التطور الطبيعى للمجتمع ومع ما ينتج عن هذه الحركات الاجتماعية من فكر وقيم، وليس هذا أمرا غريبا إذا أخذنا فى الاعتبار أن فن المسرح ينبع من المجتمع ويرتد مرة أخرى ليصب فيه، والدراما كفن من فنون التعبير ترتبط بقدرة الإنسان منذ بدء الخليقة على التعبير عن نفسه وعن مكنونات بيئته الطبيعية والاجتماعية وقد اتخذ هذا التعبير دائما شكلين: تعبير خارجى وتعبير داخلي يتفاعلان فى علاقة جدلية، فالتعبير الخارجى ما هو إلا شكل تنفيذى للداخلى وهذا التعبير فعل يستفز فيمن يستقبله رد فعل طبقا للقاعدة العلمية التى تؤكد “أن لكل فعل رد فعل مساوى له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه”، بل إن المسألة تتجاوز هذا الحد فنرى أن رد الفعل يتحول مرة أخرى الى فعل.
وبحسب السيناريست (مصطفى محرم) فإن الدراما التلفزيونية من أهم ما يربط المشاهد بالشاشة الصغيرة لأنها العماد الرئيسي في التسلية المنزلية الميسرة، وقد أضحت أهم ما يربط المشاهد بالشاشة الصغيرة، وتطورت خلال العقود الستة الماضية لتكون العماد الرئيسي في التسلية المنزلية الميسرة، على مستوى العالم، كما أنها مادة فريدة ومحببة لملء عدد ساعات الإرسال الطويلة، وتطلق هذه التسمية على الأعمال الدرامية، التي تكتب خصيصا للتلفزيون، وإن كان التلفزيون يرتبط بالجماهير التي يتوجه إليها، فإن موضوع التمثيلية التلفزيونية ينبغي أن يعبر عن حياة الجماهير ومشاكلهم لما يتميز به هذا الجهاز من قدرة على الإيحاء ولفت الانتباه والإقناع.
وهذا ما يرتبط مع أهداف المدرسة في الفن والتحليل الوظيفي للإعلام، حيث أنه من الضروري أن ينبع موضوع التمثيلية التلفزيونية من العلاقات، التي تجمع الأفراد بالمجتمع، إنها مرآة الحياة، وتعد انعكاسا للاهتمامات الخاصة بالبشر، كما أنها قادرة على ربط خبرات الأفراد بالبناء الأخلاقي والقيمي، وتكون قادرة على توسيع تعاطف المشاهدين، وجذبهم بعيدا عن قيود الواقع؛ لتقودهم إلى رؤية متعمقة أعظم في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد من التشويق والتعاطف والإثارة.
القصة في الدراما ياسادة: هى الوعاء الذي یحمل الموضوع لكي یؤدي الغرض، وهى المعالجة التي یقوم بها المؤلف للفكرة، ولا تكون جیدة إلا إذا كانت جمیلة تثیر لدى المستمع والمشاهد الترقب والتوجس ولذة المتابعة وأن تمتلئ بالحیویة والحرارة، وأن تكون مشحونة بالصراع الذي یحبس الأنفاس، وظني أن الشخصيات التي طرحت للمعالجة الدرامية كـ (طبيب الغلابة – بائع الفريسكا – سيدة القطار) كلها نماذج عادية تتكرر في حياتنا كل يوم ولا تحمل أي نوع من المفارقات التراجيديا أو الكوميدية ولا حتى الفانتازيا، كما تفتقد للإثارة التشويق، وعليه لا ترقي إلى مستوى القصة الدرامية التي تحمل المفاهيم المطلوبة في أعمال الدراما التليفزيونية والسينما والمسرح .. أليس معى كل الحق في استنكار واستهجان كل هذا العبث من جانب من يطالب بتجسيد شخصيات بعينها على الشاشة؟!.