جالك أوان و عرفت مشى الجنايز
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
هل لاننا تقدمنا فى العمر نفاجأ كل يوم برحيل صديق أو زميل ؟ أم أن وتيرة الرحيل الآن سارت أسرع ؟ أم أن الحياة ألهتنا حتى غاب عن أذهاننا أن الموت هو الحقيقة الوحيدة ؟ أم أن الفيس بوك أصبح وسيلة سريعة لنشر الأخبار السيئة؟.
لا أعرف الإجابة و لكنى أصبحت أتخبط يوميا بسبب أخبار رحيل الأحباب و الأصحاب و الزملاء ، و لأننى شخص ضعيف تجاه من أحب فإننى أحاول الهرب من أخبار الرحيل و الفقد ، و أضمر حزنى و لا أبوح لكن أمام خبر رحيل عم أمين لم أستطع الهرب.
عم أمين هو الكاتب و الناقد و المسرحجى أمين بكير ، و لا أحد من جيلى أو من الاجيال التالية أصابته لعنة المسرح لا يعرفه ، فهو واحد من مجموعة صغيرة عملت فى الإدارة المسرحية بالمسرح القومى و نبغت فيها حتى صاروا أعلاما ، فقد كان واحدا من الجيل الذهبى – الذى أتى بعد جيل الرواد – للإدارة المسرحية بالمسرح القومى و كان من نجومه مع الأساتذة عاصم البدوى و محمد سالم و عبد المنعم فضلون و إسماعيل أبو شامية.
فإذا كنت من هواة التمثيل فلابد أنك عبرت يوما على المسرح القومى كفرد فى الكورس أو مؤديا لدور صغير و هنا لابد أنك قابلت الأستاذ أمين و هو يقود خشبة المسرح بكل حزم و انضباط ، مطلقا ألقابه المضحكة على الجميع و فى نفس الوقت لا تستطيع الفكاك من براثنه لو أخطأت.
و إذا كنت من هواة إدارة المسرح و الباحة الخلفية لخشبته فلابد أنك التقيت به معلما و مرشدا سواء بشكل رسمى فى ورش التدريب لنقابة الممثلين أو كخبرة راسخة و مرجعا فيها ، فلقد كان الالتحاق بشعبة إدارة المسرح هو الباب الخلفى لدخول نقابة المهن التمثيلية و إمكانية ممارسة التمثيل بسهولة بعدها ، و لهذا وضعوا شرطا لدخول تلك الشعبة أن تجتاز ورشة على يد عم أمين ، و بذا ضمنت النقابة ألا يعبر بابها إلا من هو موهوب فعليا و يحب مجال الإدارة المسرحية .
و إذا لم تلتق به فى أحد المجالين فمن المؤكد أنه كتب عن عرض أنت شاركت فيه بصفته ناقدا داوم على متابعة العروض فترة طويلة ، أو قرأت له نصا من نصوصه الكثيرة ، حيث حمل لواء ( المونودراما ) لفترة طويلة فى بداية تعرفنا عليها و أكثر الكتاب إنتاجا لنصوصها.
عن نفسى عرفت عم أمين من خلال المسرح القومى عندما شاركت فى ( الكورس ) و أنا طالب بالجامعة ، و كان بالنسبة لى شخصا مهابا حازما بالرغم من ممازحته لنا ، و عندما أتاحت لى الأقدار أن أخرج بالمسرح القومى للمرة الأولى ( عجبى ) توليت بنفسى الاتصال بالاستاذ أمين ( عكس المتبع بأن تتصل به إدارة الفرقة ) طالبا منه قيادة خشبة المسرح ، فهكذا كنت أضمن للعرض انضباطا ، و برغم حداثة سنى – نسبيا – و أنها المرة الأولى لى مخرجا على المسرح القومى العريق ، و هو الذى عمل تحت قيادة عمالقة الإخراج فى مصر ، وافق على العمل معى ، و على مدار البروفات ثم العرض و خلال السفر صرنا أصدقاء ، و لكن ظل بالنسبة لى عم أمين الذى أحبه و أخشى من الخطأ أمامه.
و فى العرض التالى بعدها بسنوات ( أهلا يا بكوات ) كنت مصرا على تواجده برغم محاولته الاعتذار فقد كان يحزنه أن يُكتب تلاميذه على الاعلانات مخرجين منفذين و مازال يكتب هو مديرا لخشبة المسرح ، فتركت له أن يكتب من المسميات ما شاء – و أعتقد أنه كان بيننا من الحب و الإحترام ما جعله لا يرفض لى طلب – و فى العروض الكثيرة للمسرحية خارج القاهرة و خارج مصر استعنت به ممثلا أيضا. لكن المدهش و الغريب و الذى يؤكد على مدى طيبة قلب هذا الرجل أنه تقدم باسمى لجائزة الدولة التشجيعية فى الاخراج عن مسرحية ( أهلا يا بكوات ) حين أعيدت فى عام 1993 و أتم جميع أوراق التقدم دون علمى ، و قبيل إعلان النتيجة صارحنى ، إلا أن لجنة الجائزة رفضت بزعم أن العرض إنتاج 1998 و قد مر على انتاجه أكثر من ثلاث سنوات مما يخالف اللائحة برغم مبررات العم أمين بأن العرض ( إعادة إنتاج ) و يعامل معاملة العروض الجديدة.
لم نختلف سويا إلا قليلا و كل خلافنا كان حول المونودراما : ملعبه المفضل ، كان رائدا فى الكتابة لها و أصدر عدة نصوص لها و كنت أرى أنها فن ناقص مدام هناك صوت خارجى ، أو شخصيات يؤديها الممثل ، فهى عن عمد استبعدت الأصوات الأخرى لصالح صوت واحد ليفرض علينا وجوده وحده ، فما لم تكن هناك ضرورة و حتمية لتواجد لشخصية وحدها فهى مسرحية تم اختصارها عمدا أو هو فن الحكى مقنّعا و متشحا بالتمثيل . و لكن خلافنا هذا لم يكن عائقا بيننا أبدا فى أن نتعاون سويا فى أعمال أخرى.
و فيما بعد تباعد العم أمين عن العمل فى العروض و اكتفى بدوره مؤلفا و ناقدا و لكن لم تتباعد بيننا المحبة و الاحترام ، فهو واحد ممن أفنوا عمرهم فى المسرح و للمسرح ، و لم يكن يوما ممن يعتبرون المسرح ( سبوبة ) و مجرد باب للارتزاق ، كما كان مخلصا فى عمله أشد الإخلاص و للاسف الشديد رحل قبل أن يلقى التكريم اللائق ، فقد كنت أعلم نية الزميل و الصديق يوسف اسماعيل رئيس المهرجان القومى للمسرح المصرى فى تكريم عم أمين الدورة القادمة ، و لكن كان الموت أسرع.