جورج جرداق : فى ألحان بليغ حمدي كل حدة النيل وهدوئه!
كتب : أحمد السماحي
عام 1973 كتب الشاعر اللبناني الكبير جورج جرداق – صاحب رائعة “هذه ليلتي” لأم كلثوم – مقال ممتع عن بلبل الألحان بليغ حمدي فى بابه “صياد وشبكة” ونظرا لأهمية هذا المقال قررنا إعادة نشره لقرائنا الأعزاء فى مصرنا المحروسة: يقول طاغور: (يظن الكثيرون أن فهم الجمالات الشعرية سهل على كل انسان، فى حين أن الحقيقة الشعرية هى أصعب الأمور على الفهم، ولا يتاح فهمها إلا للقليل القليل من البشر الممتازين الذين قد لا يوجد منهم أحد فى كثير من الأزمنة والأمكنة).
ما قاله طاغور فى الشعر يصح قوله فى الموسيقى، فهما مظهران اثنان لحقيقة واحدة، ومجريان اثنان لينبوع واحد، كل المقاييس التى يتعلمها دارسو الشعر ويحفظها النقاد، تتلاشى وتموت ويسلح عليها العصفور أمام وهج العبقرية الشعرية الخلاقة، وكل المقاييس التى يتعلمها دارسو الموسيقى ويحفظها النقاد، تتلاشى وتموت ويأكلها الدبور أمام وهج العبقرية الموسيقية المبدعة، أمام النغم النابع من الأصالة، وأمام الشعر المتفجر من أرض الجمال، تتلوع الطرق وتبكب على حالها المقاييس، وينتف النقاد شعر رأسهم وأن لم يكن فى رأسهم شعر فإنه ينبت خصيصا لكي ينتفوه!
وألحان بليغ حمدي هذا الزورق المفلت الذى نزعت قلوعه وصواريه، هى من هذا المعين الذى يقول للمعبد: أنا العذراء، ويقول للعذراء : أنا المعبد! ويقول للنقاد انتفوا شعر رأسكم!، فى ألحان بليغ كل جسد “نفرتيتي” وهى تتلوى بين أشواقها! وكل حدة النيل حين يفيض، وكل هدوئه حين تنبسط الأرض على جانبيه، وفيها زوارق تحمل عشاقا معاميد، وفيها ليال ونجوم، ونسمة لاهية، وريح عاتية، وفيها أكواخ لصائدي الأسماك، عرشها من السفن التى حطمتها الأمواج الثائرة، وفيها قصر السلطان، والسلطان وحريمه، وأغاني المشردين، وطيبة الفلاح فى الصعيد، فيها لطف الهواء، وزرقة السماء، وهدوء الصحراء، وأعياد الأولين وأشواق السابقين، وأحلام الزمن القديم فى بغداد، وليالي شهر زاد، وفيها ألف كأس من خمرة أبي نواس، ورقص تتشوق فيه ألف جارية لألف عشيق!.
وفيها ألف ينبوع تنعكس على مائدة ملامحك المنسية، ما أشبه ألحان بليغ بقلب الشاعر وعذراء كريشنا التى خلقت من كل جميل فى الأرض فجاءت أشهى من الحلم، يتحدان معا ليخلقا العالم فى روحك من جديد.
ما أشبه أنغام بليغ حمدي بعذراء كريشنا الجميلة المرحة، الشجية، كثيرة الحركة، والكثيرة الخجل معا، تلك التى صيغت من النسمة، ورقص الموج فى البحيرة الزرقاء، وأغنية الطير التى رفت وطارت وحطت وتلوعت تحتها الغصان، وظلت عذراء لا تطال لها طهارة الموجة فى قلب البحر، إنها كالحياة تحبك وتخشاك، تأمرك وتنهاك، تظلمك وتهواك، فما أشقاها وما أشقاك!.