التعلب والغراب للشاعر الصوفي عبد الفتاح مصطفى
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
هل تعرفون الشاعر الراحل عبد الفتاح مصطفى؟.. أظنكم تعرفونه، ولكن مع “علم الجهل” الذي ساد في حياتنا نسيناه، أو قل نسيته أجيال وأجيال، وجهلته أجيال وأجيال، ولا تتعجب من مقولتي: “علم الجهل” فالجهل إذا لم تكن تعرف له قوانينه، وقواعده، الجهل يا سيدي أصبح علما في حد ذاته، ولكنه أسخف العلوم، ورحم الله المتنبي الذي قال: “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ”، وطالما أنني ذكرت المتنبي لذلك يجب أن أتحدث عن متنبي آخر، هو متنبي الأغنية العربية الشاعر الراحل عبد الفتاح مصطفى.
تعلمون أنه كتب أروع الأغاني لأم كلثوم ، وانطلق صوت سعاد محمد بأغانيه الصوفية الشفيفة في فيلم “الشيماء” أما ابتهالات النقشبندي فلا تسل عن روعتها، حتى أنني أراني وأنا أكاد أطير عندما استمع لقصيدة “مولاي إني ببابك” وأغانيه الدينية لعبد الحليم حافظ التي قام الموجي بتلحينها كانت علامة فارقة في تاريخ عبد الحليم، وستعرف أن أحدا لم يبدع في كتابة الأوبريتات الإذاعية كما أبدع عبد الفتاح مصطفى، فهل ينسى أحد أوبريت عوف الأصيل، وأوبريت مرزوق، وأوبريت شمس الأصيل، هذا غير الأغاني العاطفية والوطنية التي غناها كبار المغنيين المصريين والعرب، وقد تعانقت كلماته مع ألحان العبقري رياض السنباطي فساهمت في تشكيل مشاعرنا ووعينا العاطفي والوطني والإنساني.
ولو ظللت أتحدث عن عبد الفتاح مصطفى فلن أمل من الكتابة أبدا، خاصة وأنني تقابلت عدة مرات مع هذا الشاعر العبقري في الفترة من عام 1978 حتى عام 1980، وقد اعتبرت لقاءاتي به منحة أو هدية من الله أعطاها لي لكي أعرف أن الدين إنما يعيش في قلوبنا ويتم ترجمته في أفعالنا، وقد استعدت في مستقبل الأيام كلمات قالها لي: “اقرأ يا بُني شعر الحلاج وقف عند شطر من قصيدة له قال فيها: ديني لنفسي ودين الناس للناس” .
ولكن كيف التقيت بعبد الفتاح مصطفى؟ سأكتب لك القصة باختصار، إذ كانت وأنا في الجامعة زميل دراسة في كلية الحقوق لإبنه “محمود” الذي انقطعت أخباره عني منذ عام 1984 ولا أعرف أين هو الآن؟ .. ألا يزال يدب على وجه الأرض أم أصبح في باطنها، وكان محمود ونحن في الجامعة يكتب الشعر تأثرا بأبيه، ولكنه بالقطع لم يكن كأبيه، ولأنه كانت لي بعض محاولات في كتابة الشعر لذلك أخذني محمود لأبيه الشاعر الكبير لأقرأ له ما كتبته، وكان شاعرنا الكبير دمث الخلق، رقيق الحاشية، مهذب في توجيه النقد وتصويب الخطأ، ثم كان أحيانا ما يحكي بعض ذكرياته، ورغم أن تلك اللقاءات كانت قصيرة جدا إذ أن شاعرنا الكبير كان منشغلا بكتابة سيناريو وحوار وأغاني مسلسل محمد رسول الله، إلا أنه لم يبخل عنا بالنصيحة.
ولكن ما الذي لا تعرفونه عن عبد الفتاح مصطفى؟، ما هو الذي غاب من أعماله عن الباحثين والمؤرخين والموسيقيين؟، أيها السادة إن لعبد الفتاح مصطفى ثروة أدبية وشعرية وقصصية لم يتم نشرها رغم روعتها، وليت أبناء عبد الفتاح مصطفى يفرجون عن تلك الثروة لأنها في الحقيقة يجب أن تكون ملكا لكل المصريين، وسأحكي لكم الآن عن جزء يسير من أوبريت لعبد الفتاح مصطفى لا يعرفه أحد، وقد عرفت قصة هذا الأوبريت في آخر لقاء لي معه عام 1980، وكنت آنذاك بصحبة ابنه وزميلي محمود.
قال عبد الفتاح مصطفى وهو يعود إلى زمن بعيد: أنا كتبت للأطفال، وكان هناك أوبريت كتبته وتم تلحينه واشتركت مجموعة في الغناء فيه إلا أنه لم يتم إذاعته إلا مرات قليلة جدا ثم اختفى من مكتبة الإذاعة، وهو عن التعلب والغراب، ثم أخذ شاعرنا الكبير يترنم بهذا الأوبريت، وقد حفظته يومها عن ظهر قلب لأنه كان عبارة عن قصة لطيفة جميلة، مشوقة خفيفة الظل، ولكن مع الزمن سقط من ذاكرتي بعض أبيات من الأوبريت ولكنها لا تخل بالمعنى، وأتمنى من رئيس الإذاعة إعادة البحث عن هذا الأوبريت لأنه ثروة فنية نادرة.
أما الأوبريت فهو :
غراب يقف على نخلة ومعه قطعة جُبن كبيرة يكاد يأكلها، ولكن الطرب يأخذ به فيترك الجُبن ويغني قائلا:
كاك كاك يلي هناك
وأنا عـ النخلة بغني معاك
صوتي فَـتْـنِّي هايجنني
مين بيغني أحسن مني
كروان مين بلبل مين
انتو يا عالم مش سامعين
ولَّا عشان ما انا اسمي غراب
يبأه ماليش في ودانكو حساب
صوت ثعلب يأتي من بعيد وعينه على الغراب وقطعة الجن، فيقول بصوت لا يسمعه الغراب:
أنا التعلب أبو التعالب
مطرح ما هوِّب اضرب مقالب
نهاري نومة وليلي قومة
أجعصها بطة أشمطها شمطة
أنسفها بِنْيابي والمخالب.
أنا التعلب أبو التعالب.
يقترب الثعب من النخلة فيقول للغراب الذي وضع قطعة الجبن في فمه يكاد يأكلها:
سكت ليه بس يا كوكو
دا طول سُكاتك جنني
الغراب منتشيا بصوته يبدأ في الغناء ويقول: كاك كاك، فتقع قطعة الجن من فمه، فيذهب إليها الثعلب ليأكلها.
الغراب: الجبنة وقعت
الثعلب: مهوش بخُطري
قسمنا قسمة لكن وفية
إشبع بفنك والجبنة ليا