عصا المصريين (3 ).. هيه.. أبويا اتحرق
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
لا أظن أن هناك حاكما مصريا تراوحت أسهمه بين الارتفاع الشاهق و الهبوط الحاد ، و بين التقدير و التحقير طوال فترة حكمه مثل الرئيس أنور السادات ، فالرجل تبوأ عرش مصر و كل الظروف ضده ، بداية من أنه أتى بعد زعيم دانت له القلوب فى الوطن العربى كله و نال احتراما و تقديرا حتى فى أقسى و اقصى لحظات ضعفه ، نهاية بأنه تحمل وزر هزيمة و حمل عبء معركة فاصلة.
فى البداية سخر المصريون من ذلك الظل الهزيل القادم من خلف القامة الضخمة ، و ساعد على السخرية أنه بدأ الحكم فى مناخ معاد له ، و طالته النكات قبل أن يبدأ ، و لكنه بعد شهور قليلة نجح فى التخلص من كل المناوئين محاولا تسويق صورة مختلفة له عن صورة الزعيم ، صورة رجل الديمقراطية الذى يحفظ للناس كرامتهم و يجعلهم آمنين على بيوتهم و أموالهم و أسرارهم و أرواحهم ، و ساعدته جوقة اتخذت من سب الزعيم الراحل أسلوبا لرفع قيمة الحاكم الجديد ، و لكن سرعان ما انفجر الوضع و كاد أن يخرج عن السيطرة بسبب عدم تحقيقه لوعده المتهور بحسم المعركة فى نفس العام متعللا بحجج لا تنطلى على الأطفال ، فالجموع لم تقتنع بأن الضباب – حتى لو كان معنويا – قد أجل الحسم .
صار التوتر سمة العلاقة بين الحاكم و المحكومين ، و طغى الغضب على السخرية ، و انفجر عدة مرات بسبب الإحساس بأنه لن يحارب ، و عندما أتت الحرب رفعته الجماهير إلى عنان السماء فلقد حقق لها الأخذ بالثأر ، و سرعان ما أصابتهم خيبة الأمل بدءا من الاستقبال الحافل لنيكسون و انتهاء بزيارة القدس ، و بدءا من الوعد بالرخاء القادم انتهاء برفع الأسعار . و تعددت وقائع التظاهر فى عصره وازداد عنفها: فبعد الحرب قامت اضطرابات عمالية فى 75 و انتفاضة شعبية فى 77 ثم مظاهرات متعددة من 79 و حتى اغتياله.
و برغم قصر ذلك العصر إلا أنه شهد تناقضا ضخما ، ففيه اتكأ المصريون بعنف على عصاهم و استخدموها بقوة ضد الحاكم ، كما شهد ذلك العصر أيضا أكبر عملية تزييف لعصا المصريين !!
فأما الاستخدام العنيف و المفرط فقد تجلت أولى مظاهره فى حجم النكات التى أطلقت على السادات و التى تفوق فيها على أى حاكم آخر معاصر حتى أنها طالت زوجته فى قسوة غير مسبوقة . أما ثانى المظاهر فكانت ظهور وسيلة جديدة للتعبير و مظهرا حديثا لعصا المصريين ، هى مجلات أو جرائد الحائط التى انتشرت فى الجامعات و تعددت و تنوعت و قدمت وجبة من السخرية تستحق دراسات كثيرة و متعمقة ( للاسف اختفت تلك الجرائد تحت أقدام الأمن قبل أن توثق و تسجل ) .
كانت تلك المجلات طريق متاح و مساحة مفتوحة للتعبير عن جيل جديد ، جيل تمرد على صورة ” الأب المسيطر” – بدءا من عام 1968 ليس فى مصر فحسب بل فى العالم أجمع – فبعد أعوام طويلة من الحياة تحت جناح الأب القوى وفى حمايته فى مقابل تسليم أمرنا إليه ، تمرد ذلك الجيل على كل الأباء محاولا كسر كل العادات و التقاليد و الأعراف الاجتماعية ، و جاءت مسرحية ” مدرسة المشاغبين ” متوافقة مع اللحظة بالصدفة فنجحت نجاحا ساحقا و نقلت ممثليها إلى مصاف النجوم ، نجوم تلك المرحلة التى يصرخ فيها كل الابناء ( هييييه ..أبويا اتحرق )
و ساهم ذلك العصر أيضا فى ظهور صوت للشعب يشبه صوت الأدباتى ( ذلك الساخر الذى كان يدور فى الأسواق مغنيا معبرا عما يحسه الناس ) صوت سمعناه من عبد الله النديم و من بيرم التونسى ، و لكن الصوت هذه المرة كان أعلى و أحد و أعنف ، ، إنه صوت أحمد فؤاد نجم .
كانت لنجم شهرة منذ عصر عبد الناصر ، و لفترة قصيرة احتفت به الأجهزة الحكومية و قدم قصائده فى الإذاعة الرسمية ، و برغم تعدد أصوات شعراء العامية المصرية و اجتماع نوابغ منهم فى عصر واحد ( جاهين ، الأبنودى ، حجاب ، قاعود تحت راية الأب حداد ) إلا أن نجم كان أكثرهم سخرية و سلاطة و تعبيرا عن موقف الشارع من الحاكم ، و سرعان ما تحول صوته ليصبح سوطا يمثل عصا المصريين ، و ساهم فى انتشار الصوت كم السخرية فى أشعاره و أن تلك الأشعارمغناة ، فالغناء كان الباب السحرى لسهولة ترديدها و تسريبها إلى كل الطبقات حتى ترسخت فى التربة المصرية .
كانت تلك أبرز تجليات عصا المصريين فى عصر حرق الأب ، و لكن على مستوى آخر كانت هناك عملية التزييف قائمة على قدم و ساق .