صراع الشيطان والإنسان في السينما
بقلم الدكتور: ثروت الخرباوي
“فاوست” وما أدراك ما فاوست! هل تعرفه؟ هل رأيته؟ انظر في نفسك ستجد “فاوست الصغير” وهو يأخذ حيزا ما في داخلك، أحيانا يكون الحيز الذي احتله صغيرا، وأحيانا أخرى يكون قد استولى على داخلك كله، كل هذا متوقف على من أنت؟ وماذا تريد؟ وقف الإنسان منذ فجر الحياة موقف العاجز أمام أسرار الكون، ولكن السر الأعظم الذي شتت عقله هو “سر الحياة”!، هو الخلود!، هو شجرة الخلد التي أخرجت أبوينا آدم وحواء من الجنة، ولأن إبليس كان يعرف طبيعة الإنسان وشغفه بالمعرفة ورغبته في الاستمرار في الحياة بلا انتهاء لذلك وسوس لهما، وظل إبليس يوسوس، وظل الإنسان يَخضع ويُخْدَع ثم يتمرد.
لا أريدك أن تغضب من ذلك الإنسان الجهول، إذ أن جهالته هذه أخرجت للبشرية حكمة، نعم، فقد تُولد الحكمة من رحم الجهالة!، فمِن وسوسة الشيطان نسج البشر أساطير، ومن شغف الإنسان بمعرفة سر الحياة نسج البشر قصصا، وكانت قصة فاوست من تلك الأساطير ومن هذه القصص، وفاوست هذه قصة من الأدب الشعبي الألماني ظلت تُتناقل بين الأجيال مشافهة، يرويها الآباء لأبنائهم في حواديت قبل النوم، إلى أن ظهر على كوكب الأرض رجلٌ اسمه “جوتة” كان من فلاسفة ألمانيا ومن كبار أدبائها، فأعطى حياة حقيقية لقصة فاوست عندما كتبها، فكانت مسرحية فاوست لجوتة أعظم ما كتبه البشر عن العلاقة بين الإنسان والشيطان، فاوست الأسطورة كان كيميائيا يبحث عن سر الحياة، ويجري خلف “حجر الفلاسفة” الذي إذا امتلكه امتلك الدنيا كلها، فاوست الإنسان يبحث عن “الخلد” والمُلك الذي لا يبلى، ومن سيعطيه تلك الأسرار؟ إنه إبليس الذي وسوس لأبوينا وهما في جنة “الخلق” جنة الإبتداء، فباع فاوست برغبته روحه للشيطان، وما أقسى أن تبيع روحك لآخرين حتى ولو كانوا ملائكة.
نسجت السينما العالمية عشرات الأفلام التي تدور حول تلك المعاني، الإنسان الذي يبيع نفسه للشيطان، ولكن لم تأت معالجة مقنعة في معظم هذه الأعمال عن السبب الذي جعل إبليس يدخل في تلك الصفقة مع ذلك الإنسان بذاته، نعم قد يكون مفهوما لدى الجميع أن ذلك الإنسان الفقير البسيط الفاشل الذي هو محل سخرية الناس قد يلجأ للشيطان ليحصل من خلاله على المجد، أو على أسرار الحياة، أو على حجر الفلاسفة، أو على كنوز الدنيا، ولكن السؤال ظل يطرح نفسه عبر معظم الأعمال الفنية، لماذا دخل الشيطان في صفقة مع إنسان تافه مع أنه كان يمكنه أن يدخل في تلك الصفقة مع ملوك العالم؟ وقد دخل بالفعل، فما جنكيز خان، وهولاكو ، وهتلر، وموسوليني، وغيرهم إلا نتاج صفقات مع إبليس، وقد يكون سبب عدم اهتمام الأدباء وكتاب الدراما بالشخص الذي سيبيع روحه لإبليس هو أن اهتمامهم الأكبر كان بخصوص الصفقة نفسها، ثم يأتي بعد الصفقة الطرف الأقوى فيها وهو إبليس، ثم تمرد الإنسان في النهاية على هذه الصفقة، ولكن كيف عالجت الدراما المصرية تلك القصة؟.
كان فيلم “سفير جهنم” هو أول الأفلام المصرية التي تناولت تلك القصة، وعالجت تلك العلاقة بين الإنسان والشيطان، وقد كتب يوسف وهبي قصة الفيلم مقتبسا إياها من “فاوست”، ومثل كل القصص السابقة، والمعالجات الدرامية في السينما العالمية اهتمت القصة بالصفقة، وبالشيطان، أما الإنسان فكان عبارة عن أسرة فقيرة أكل منها الدهر وشرب، الشيطان في هذا العمل كان هو العبقري يوسف وهبي، والإنسان رب الأسرة الفقير المطحون والذي سحقته ىعجلة الحياة هو “فؤاد شفيق” صاحب الأداء السهل الممتنع، وكانت الصفقة أن يعود رب الأسرة وزوجته إلى شبابهما، وأن يهب إبليس تلك الأسرة المال الوفير ليكونوا أثرياء، وتتم الصفقة، وتفسد الأسرة وتصبح مهيأة للدخول إلى جهنم مع إبليس، والملاحظ أن الأداء الغالب على يوسف وهبي في هذا الفيلم وهو يؤدي دور الشيطان هو الأداء المسرحي، سواء في حركاته، أو في طريقة إلقائه التي كانت تميل إلى الأداء الخطابي.
وحينما يتحرك بنا الزمن مع السينما المصرية سيكون من حظنا أن نرى عملاقين من عمالقة التمثيل في مباراة تمثيلية مذهلة، هما محمود المليجي وزكي رستم في فيلم “موعد مع إبليس” وهو مقتبس ايضا من قصة فاوست ولكن مع إعطاء صبغة إسلامية للعمل، فالصفقة بين إبليس “محمود المليجي” والإنسان “زكي رستم” لا تتم في البداية، ولكن إبليس مهَّد الطريق للإنسان كي يخرج من مشاكل حياته ويصبح واسع الثراء، فيتحول الدكتور (رجب الطبيب) الذي كانت عيادته في منطقة شعبية، من طبيب فاشل في عمله، تتراكم عليه الديون، يعجز حتى عن شراء “بسكيلتة” لطفله الصغير، يتم الحجز على عيادته، إلى طبيب ناجح واسع الثراء، وقد حدث ذلك عندما قام الشيطان (محمود المليجي) ذات ليلة بمقابلة الطبيب (زكي رستم) فيغير حاله تماما، ولكن ما غرض إبليس من هذا؟ ولماذا قام بتحويل حياة الطبيب رجب من النقيض إلى النقيض؟ سنعرف في نهاية القصة أن الطفل الصغير ابن الطبيب رجب يصاب بحالة مرضية، والطبيب من خلال العلم الذي تعلمه من إبليس يعلم أن ما أصاب ابنه سيؤدي إلى وفاته حتما، فيلجأ الطبيب إلى إبليس كي يشفي ابنه، فيقبل إبليس ولكن بشرط، ما هو؟ أن يكفر الطبيب بالله ويعبد الشيطان!.
ينتبه الطبيب للمزلق الخطير، ولتلك الهاوية التي يريد إبليس أن يدفعه فيها، فيرفض ويلجأ إلى الله، وستجد العاطفة الجياشة والصدق في الأداء من زكي رستم، ولكنك لا يمكن أن تغفل ولو للحظة عن العملاق محمود المليجي الذي لا يمكن أن يتكرر أبدا وهو يؤدي دور إبليس، أظنك ستخاف من نظرة عينيه، من ذلك البريق الشرير الذي ينطلق منهما، محمود المليجي في هذا الفيلم لم يكن يمثل الشيطان ولكنه كان الشيطان نفسه، سترى الشيطان في ملامحه، وفي لفتاته، وفي حركات جسده، وإذا كنا برحمة من الله لم نر إبليس أبدا، إلا أن المليجي أعطانا صورته، وما صورة الشيئ إلا من صفاته، وما صورة إبليس إلا من أعماله.
ومن موعد مع إبليس إلى “المرأة التي غلبت الشيطان” وهي من قصة للكاتب الكبير توفيق الحكيم، وقامت بدور المرأة التي اشترى إبليس روحها الفنانة نعمت مختار، وكان إبليس هذا الفيلم هو عادل أدهم، وعادل أدهم هو إبليس السينما المصرية، وقد برع في أداء دور إبليس، وعاش مع تلك الشخصية، مستخدما في تشخيصها كل إمكانياته، حتى صوته وطريقة نطقه للحروف، ونعومة صوته وهو يقوم بالغواية، وضحكاته، واتساع عينيه عندما يضمر شرا، وخيبة أمله عندما اتجهت المرأة إلى الله، وذهبت للحج، إنها بذلك تنقض العقد الذي تم توقيعه بينهما، وفي بيتها يأتي إليها لكي تقوم بتنفيذ الاتفاق، الآن يجب أن تنتحر لتدخل إلى مملكته، فتستمهله، ثم تقوم بالصلاة، فيجن جنونه، ويجري في المكان حولها كالملتاث وهي تصلي، وينظر للعقد الموقع بينهما فيجد الكلمات قد تم محوها، إنها قدرة الله تعالى، وتموت المرأة موتة طبيعية بعد أن أدت صلاتها، فيكون موتها هو إعلان لانتصارها على إبليس.
وعلى ذات الطريقة شاهدنا منذ سنوات مسلسل “ونوس” الذي قام بدور البطولة فيه يحي الفخراني مؤديا دور الشيطان، ونبيل الحلفاوي مؤديا دور الإنسان الذي تعاقد مع إبليس على بيع روحه له، يهنأ ياقوت “نبيل الحلفاوي” بالمال الوفير الذي أعطاه له الشيطان ونوس “يحي الفخراني” وعندما يطالبه الشيطان بتنفيذ الاتفاق يرفض ياقوت، فيتجه إبليس إلى أسرة ياقوت التي غاب عنها سنوات طويلة ليوقعها في الغواية فردا فردا، وما فعل ذلك إلا لكي يجبر ياقوت على تنفيذ اتفاقه، ورغم أن القصة مأخوذة من فاوست، وقد أجاد الكاتب عبد الرحيم كمال في كتابتها إلا أن الكثير من الأحداث ستضطر للوقوف عندها، فمسألة أن يبدأ الشيطان في غواية افراد الأسرة ليضغط بهم على ياقوت هو أمر مستغرب! وكأن إبليس قد أعطى لنفسه أجازة فترة طويلة بالنسبة لهذه الأسرة ثم عاد ليغويها ويوسوس لها، ويدفعها للرزيلة والفساد، والأمر على غير ذلك، فإبليس لم يتخل عن مهمته الكونية التي أعطاها لنفسه طرفة عين أبدا، ولا يوجد واحد من البشر لم يتعرض لوسوسة إبليس وغوايته، ولذلك كان الأكثر منطقية أن يجعل المؤلف لإبليس وسيلة أخرى للضغط على ياقوت، وتكون أيضا من خلال أسرته التي هجرها.
أيا كان الأمر فإن القصة التي كتبها عبد الرحيم كمال كانت جيدة، أما الأكثر جودة فهو تلك المباراة الرائعة التي شاهدناها بين الشيطان “ونوس” والإنسان “ياقوت” أجاد الفخراني، وأبدع الحلفاوي، وقدما نموذجا جديدا لتلك الشخصيتين، وقد كان من المستحيل عليَّ شخصيا أن أرى الفخراني في صورة إبليس وأقتنع به بعد أن رأيته من قبل في صورة الخواجة عبد القادر الطيب الصوفي المقبل على الله، ولكن الفخراني أقنعني، وجعلني أنسى الخواجة عبد القادر، والحلفاوي أبدع أيما إبداع وهو يتمرد على إبليس، وإذا كنا نقول دائما لعنة الله على الشيطان، إلا أننا سنقول هنا: بارك الله في شياطين السينما والدراما المصرية فقد رأينا الصراع الأبدي بين الشيطان والإنسان من خلالهم.