عصا المصريين (2) .. ظلم قراقوش
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
اتخذ المصريون من السخرية عصا يتكئون عليها ، تعينهم على احتمال تقلبات الحياة و عند الضرورة كانت تلك العصا وسيلة لالهاب ظهور حكامهم ، و كأنها تحولت من اداة للاحتماء و الاحتمال الى اداة للهدم و الانتقام . فتاريخ مصر يمتلئ بوقائع كثيرة انتقم فيها الشعب من الحاكم بهدم سمعته و تشويه تاريخه ، ثم عاشت تلك الوقائع لتصبح تسجيلا لمواقف سياسية بعينها ، لكن السخرية من الحاكم المنقولة لنا كمعاصرين لا تعنى بالضرورة انها صحيحة أو أن هذا هو موقف الشعب فى زمانه . فربما كانت وقائع مغلوطة ساعد على تثبيتها تاريخيا حجم و قوة تأثير المناوئين لذلك الحاكم .
فالخليفة الفاطمى الحاكم بامر الله لم يبق منه – فى الخيال الشعبى و بعيدا عن الدراسات التاريخية الجادة – سوى مجموعة من الحواديت الساخرة حول منعه أكل الملوخية و تحريم خروج النساء للشوارع و استبدال الليل بالنهار فى العمل ، إلى آخر تلك المساخر المتداولة و المشاعة عن فترة حكمه . فى حين ان الباحث المدقق سيرى في نفس الفترة ايجابيات متعددة خاصة فى مجال منع الرشوة و مكافحة الفساد و الاهتمام بعدالة القضاء وتحقيق العدالة الاجتماعية و ضبط الاسواق و مكافحة الغلاء ، و حتى قراراته التى تبدو غريبة كانت لها أسبابها ، بل إن بعضا من أفكاره سبقت عصره مثل دراسة إقامة سد لتخزين ماء النيل لاستخدامه فى السنين العجاف .
صحيح أن بعض المصريين سخروا من الحاكم بأمر الله ، و ابتكروا وسائل متعددة لإيصال سخريتهم إليه برغم شدته وعنفه ، إلا أن كثيرين أحبوه ، حتى صار الرجل قادرا على التجوال فى الأسواق بلا حراسة ، برغم أن عصره امتلأ بحروب مع أعداء على الحدود شرقا و غربا للحفاظ على ملكه . و لكن من قاموا باغتيال الحاكم و تصفيته جسديا اغتالوه أيضا معنويا ، و ساعدهم المؤرخون السُنّة فى محو أى فضيلة للرجل . و لم يبق منه إلا ما أراد أعداؤه أن يشيعوه عنه .
وفى واقعة أخرى نرى حاكما أساء إليه كتاب واحد ، فألصق به كل نقيصة حتى صار مثالا للظلم و عنوانا للغباء و الحماقة ، الرجل هو : ” بهاء الدين قراقوش ” نائب الناصر صلاح الدين فى حكم القاهرة ، أما الكتاب فهو ” الفاشوش فى حكم قراقوش “.
كان قراقوش رجلا عسكريا يجيد أعمال التشييد و البناء ، و يكفيه فى هذا المجال بنائه لقلعة الجبل و سور مجرى العيون الذين كان يستخدم فى رفع المياه الى القلعة ، و لكن تواجده فى لحظة تاريخية مفصلية تتحول فيها الدولة المصرية من حكم شيعى على يد الفاطميين إلى حكم سنى بقيادة صلاح الدين ، جعله هدفا للسخرية و محط اللعنات ، خاصة أنه كان مسئولا عن تصفية مظاهر حكم الفاطميين من مصادرة للأموال و القصور و بيع العبيد . و جاء رجل يدعى ” أسعد بن مماتى ” – ربما كان منافسا لقراقوش على السلطة – نقل لنا صورة مظلمة عنه فى كتاب أسماه ” الفاشوش فى حكم قراقوش ” فكان سببا فى شهرة الاثنين ، و صار ذلك الكتاب أشهر مؤلفات ابن مماتى برغم أن له مؤلفات أهم بكثير . و لم يكتف الناس بما ورد فى الكتاب بل أضافوا إليه قصصا و نوادر تنسب لجحا و غيره و ألصقوها بقراقوش .
لا جدال أن قراقوش اشتهر بالصرامة ، إلا أن هذا أمر طبيعى ، فمن المؤكد أن قائدا عسكريا يحكم عاصمة دولة تحارب دولا متعددة و تخوض غمار حرب طاحنة و يغيب رأسها عنها لانشغاله بقيادة جيوشه لابد و أن تؤدي بنائبه إلى انتهاج الشدة و ربما العنف فى التعامل حفاظا على الجبهة الداخلية – بلغتنا المعاصرة – و حماية لها ، و ربما لو كنا مكانه لأعلنا الأحكام العرفية أو أصدرنا – على الأقل – قانونا للطوارئ ، و هذا بالطبع لابد و أن يخلف بعض الجروح من حوادث ظالمة لبعض العباد ، لكن البلاد فى حالة حرب . و برغم شدة قراقوش إلا أن معظم المؤرخين ذكروه بالخير و لم يذكروا فى ترجمته وقائع كالتى جاءت فى الكتاب .
و فى اعتقادى أن المصريين استخدموا قراقوش هدفا بديلا عن صلاح الدين لسخريتهم ، فمن الصعب السخرية من الحاكم الذي يقود جيشه فى حرب لها مسحة دينية ، ليس هذا فقط بل يحقق انتصارات فى تلك الحرب و يستعيد أماكن لها قدسية و مكانة دينية عند الشعب ، و لذا ففرصة تقبّل الجموع للسخرية منه تكاد أن تكون معدومة و ليس لها سبيل للانتشار ، و لذا كانت ( الحيطة الواطية ) هى قراقوش .. و يظل السؤال : بعيدا عن الكتاب الذى نقل للمعاصرين صورة ظالمة ، هل كانت صورة قراقوش فى عصره بذلك السوء ؟ ام ان معاصريه قدروا له منجزاته الهندسية و صموده طويلا فى حصار الفرنجة لعكا ؟ ، هل كانت قصة آسره فى حسبانهم و هم يسخرون منه ؟ أم أن كل السخرية كانت عابرة للعصور و لكنها لم تكن مؤثرة فى عصره ؟
و هكذا نجد انفسنا امام اكبر عملية تزييف للتاريخ استعملت فيها عصا المصريين ( السخرية ).