فيلم القضية 23 .. مزراب التطبيع
بقلم : فراس نعناع
سألني صديق كونك فنّان هل تطبع مع إسرائيل، لانَّ الصورة المستقبلية تشي بتطبيع العرب مع إسرائيل . وهناك فئة من الفنّانين والاعلامين العرب يُصرحون علناً على منصات التواصُل الاجتماعيّ بأن فلسطين ليست قضيتهم.
أجبته جازماً وحاسماً بالتأكيد لا ، حتى لو دولتي سُوريا عملت سلاماً معها مستقبلاً، لا استطيعُ أن أرمي أكثر من ٥٠ سنة تربيت أن عدويّ هو إسرائيل ، رغم تطور عقلي، وهذا من حقي. وتذكرت حضوري لفيلم زياد دويري – اللبناني (القضية ٢٣) وقصصتها عليه.
صبيحة السبت العاشر من شباط (فبراير٢٠١٨)، كانت قواتنا السورية قد أسقطت طائرة إسرائيلية . بعد قامت طائرات العدو بضرب إحدى مواقع الجيش السوري.
فرحت كما فرح الكثير. في المساء قررت أن أحضر فيلم زياد دويري (القضية ٢٣)، والذي لف حولة جملة من الانتقادات، كونه مطبع مع العدو الاسرائيلي. ذهبت لأقصف فيلم دويري عله يسقط أيضا .
(لا تصدق أي شيء تسمعه أو تقرؤه أيا كان قائله، حتى لو كنت أنا شخصيا ،مالم يتفق مع عقلك).*بوذا
نفذت تعاليم (بوذا) ولم أنفذ تعاليم (بريخت) فلم ولن أرضى أن يأخذ عقلي كمتلقي كما يريد، مهما كانت أهمية المقولة أو الدهشة البصرية، فلقد أصابتنا التخمة، أشاهد الآن الفيلم التي دارت عنه وحوله الشبهات من نص تحريضي طائفي وتمويل، ومن ثم تطبيعا مع الكيان الغاصب “الإسرائيلي” بابتسامة هادئة وفرح بنشوة خبر سقوط آلاف 16 وحزن مكلوم بجراح بلدي سوريا، بل ربما الجراح متفاقمة منذ نكسة حزيران 1967، وربما أكثر من ألم وتشرد وظلم يعود إلى نكبة أهلنا وأخواتنا في فلسطين 1948المحتلة. في سينما زاوية بوسط القاهرة .. مشاعرمختلطة أعيشها الآن لوحدي.
رغم وجود جمهور يملأ الصالة، شريط الذاكرة يأخذني الى صالة (سينما فؤاد) في حلب منتصف سبعينيات القرن الماضي لأشاهد فيلم (كفرقاسم) للمخرج اللبناني برهان علوية، المجزرة الوحشية 1956 بحق أبناء قرية كفر قاسم الفلسطينية على يد الهاكناة الاسرائيلي، يبدوهنا أستعيد الذاكرة الانفعالية لـ (فراس) الفتى. المشاهد الحي الآن لشريط دويري السينمائي (القضية23).
المشهد الأول نهاري، نحن أمام خطاب حماسي تلتقط كاميرا دويري (طوني حنا، عادل كرم) وسط جموع مناصري (حزب القوات) المنشق عن الكتائب اللبنانية أبان الحرب الأهلية لزعيمه السابق بشيرالجميل، (الذي يصفه مناهضوه بالمجرم والسفاح والعميل ويعتبروه مشعل فتيل الحرب الأهلية 1975 بعد حادثة عين الرمانة)، ومجازر عدة منها مجزرة تصفية ميلشيا النمور(الصفرا)، وعمالته تأتي باجتماعه بإرييل شارون قبيل اجتياح لبنان1982 لاجتثاث منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، واجتماعه في نهاريا مع مناحيم بيغن وشكره على دعم القوات (ووعده بتوقيع معاهدة سلام مع اسرائيل فور تسلمه منصب الرئاسة)، بل واجتمع مع شارون في مدينة (بكفيا) الجبلية في لبنان من أجل شن هجمات على القوات السورية الموجودة بقرار دولي أنذالك في لبنان.
وربما مجزرة (اهدن) بقيادة سمير جعجع الملقب (بالحكيم) القواتي، أيضا فتحت شهيته للانشقاق هو وإيليا حبيقة، مع مقتل بشير الجميل، والذي أتهم حبيب طانيوس الشرتوني، المنتمي للحزب السوري القومي الاجتماعي بمقتله وتبريره بقتله لأنه باع لبنان لإسرائيل، ثم انشق جعجع عن حبيقية بعد تقرب الأخير من حلفي بري وجنبلاط والدولة السورية ممسكا بزمام حزب القوات الى أن حوكم بشتى الجرائم والمجازر وصلت أحاكمها للإعدام، ولكنه سجن لمدة 11 عاما لتفجيره كنيسة سيدة النجاة في (كسروان) واتهامه باغتيال الرئيس كرامي، وجرائم عدة، وبعد خروجه من السجن تسلم قيادة حزب القوات من جديد.
هذا هو خط الفعل المتصل الذي بنى عليه وستبقى جميع خطوط أفعال شخوصه مساعدة لما سيبنى، هكذا قرأت المشهد ولابد لي ولمن تابع أو سيتابع هذا الفيلم هذه السيرورة من الأحداث التاريخية التي لا جدال فيها إن أراد دويري تحفيز ذاكرتي على الأقل، أو لنقل على الأصح أن بشير الجميل خائنا وعميلا ومطبعا مع إسرائيل وظهوره في الفيلم كوثيقة تعتبر تطبيعا للبعض، فقد يكون تطبيعا ضمن تلك التركيبة في تاريخ لبنان المعاصر.
تدور أحداث الفيلم البسيطة والحياتية عن شاب لبناني بانتظار مولوده الأول مع زوجته التي تضيق ذرعا بمنزلها الصغير وتريد الانتقال إلى منطقة آهلة (الدامور) فيرفض وتشيء عيناه بتداعيات نعرفها لاحقا .
تجري اصلاحات في حيه يقوم المهندس ياسر سلامه (كامل الباشا) اللاجىء الفلسطيني بإعطاء إرشادته للعمال، والممنوع أصلا من العمل في لبنان ،حسب تقارير صحفية تقول بأن اللاجىء الفلسطيني ممنوع من مزوالة 73 مهنة، بينما تقارير الأنروا UNRWA تصنف المهن المحظورة للاجئين الفلسطيين في لبنان إلى 36 مهنة ومنها الهندسة عام 2015 بحجة المعاملة بالمثل ، وهو يستحيل تطبيقه في ظل الواقع الحالي المرتبط بقيام دولة فلسطين.
وهي إشكالية اللاجىء (الضيف أجمل) المهندس ياسر والذي تنسكب على خوذة رأسه الماء من مزراب بلكونة طوني كفعل مساعد لخلق مشكلة الصراع، يحاول ياسر مع عماله إقناع طوني بإصلاح المزارب يرفض. يركبون مزاربا من الخارج يكسره طوني بشراسة ويتالسن معهم ويرشقهم بالماء قصدا، يقول ياسر رافعا رأسه لطوني (عرص) كردة فعل لفظي لفعل طوني وهى أضعف الإيمان.
يطلب طلال المسوؤل عن ياسر الاعتذار لطوني، يأتي ياسر مرغما لكراج تصليح سيارات طوني مع طلال للاعتذار، يقول طوني لياسر: (ياريت شارون مايحكم محي) عبر أداء تمثيلي براني يشيء بعنصرية وهو مبرر منذ المشهد الأول، ومشاهداته الدائمة لخطب زعيمه بشير الجميل حول الفلسطيين.
إذا نحن أمام شخصية مركبة أيدولوجيا، ممايضطر ياسر بلكمه على قفصه الصدري تكسر بعض ضلوعه ليدخل طوني المشفى ،ثم يشتكى للدرك (الشرطة)، حيث يتوارى ياسر لحظتها الساكن في أحد مخيمات بيروت الفلسطينية البائسة (والتي لاندري نحن الشعوب العربية لماذا يبقى حال اخواتنا بهذا السوء؟، أمن أجل حق العودة ؟، سيبقى فلسطينيوالشتات حالمين بل مصرين على حقهم بالعودة، بل سنقف معهم دائما للمطالبة بذلك، وإن باعوهم وباعوني فلن أبيع أنا على الأقل)، والتي لا يستطيع الدرك دخولها حسب الاتفاقيات.
يسلم ياسر نفسه طواعية للدرك وهنا تتصاعد أحداث الصراع ،ثم تتم المحاكمة ويرفض طوني الصلح والمسامحة ويأتي على لسانه كشخصية (أنا ماني المسيح حتى ديرله خدي التاني) رغم تعصبه المسيحي الواضح، هنا نرى ياسر مسيحيا غنوصيا أكثر من طوني، رغم عدم مسيحيته وهو المتزوج من مسيحية لبنانية برفضة البوح للقاضي لماذاضرب طوني ومالذي دفعه لذلك معللا (بكلام عيب) فقط ليبرىء القاضي ساحة ياسر وما من مبرر لادانته.
يثور طوني الذي يعتبر نفسه على حق ويشتم كل شي بما فيهم القاضي، إلى هنا لم أرى أي تطبيع مع عدوي، بل بالعكس كل الأحداث بما فيها (القضاء اللبناني) وقف مع حالة ياسر وزود دويري إيماني بقضية أخواتنا الفلسطينين، وكرهني بشخصية طوني النمطية التي تشح برائحة العنصرية العنفة والموجودة أصلا في جل مجتمعاتنا العربية، والتي ربما تكون بين حارة وأخرى ومن نفس الملة.
حاول طوني أن يجهد نفسه بحمله في ورشته حملا ثقيلا ربما أمتعاضا وكفعل مساعد أيضا لتطوير الأحداث، يغمى عليه رغم إصرار الطبيب المعالج على استراحه لتفأجا بعدها زوجته شيرين (ريتا حايك) بحالة الإغماء تحاول مساعدته فتجهض حملها كفعل مساعد آخر لتطور القضية أو الأحداث، ورغم كشفنا لاكثر من مرة استباقا للأحداث ماذا سيحدث وهو ربما ليس ذكاء منا كمتفرجين بل مبررا منطقيا لجل تواتر الأفعال لتصل الى هدفها أو الهدف الأعلى.
توضع الطفلة في حاضنة ويعالجان الزوجان، هنا يظهر فجأة المحامي مع طاقمه وجدي وهبي (كاميل سلامة) ليحول (القضية 23) إلى قضية رأي عام مدافعاعن طوني حنا، وهو الذي ترافع كما قيل عن سمير جعجع (الحكيم) رئيس الحزب الحالي وخسر الدعوة وبالمقابل ترافعت المحامية نادين (دياموند بوعبود) عن ياسر سلامة والتى عرفنا بردة فعل وجدي لحركة الكاميرا بأنها تخصه لنكتشف فيما بعد بأنها ابنته، إنه صراع العائلة الواحدة الخير والشر.
يحاول وجدي جاهدا وكأنه شايلوك شكسبير أو ربما امتداد لروح بشير الجميل الدارس للحقوق أيضا تبرير أفعال موكله وابتعاده عن كل التعاليم المسيحية السمحة، بل رأيته يهوذا لا يبيع المسيح بل يبيع كل شي مقابل الفضة وشهوده اليهوذين جاهزين لإدانة خصمه أمام القضاء، أما الشاهد الأردني (الطباخ) أحضره سيناريو دويري للمحكمة مشلولا ليدين به خصمه ياسر، هنا قرأت المشهد بأنه هنالك إدانة للاردن بارتكابها (أيلول الأسود) بحق الفلسطيين، أو الأردن ولد مشلولا ومستقبله مشلولا ربما يقصد ذلك أم لا، فأنا قرأت المشهد حسب إشاراته ودلالاته هكذا، وهي أيضا نقطة مضافة للقضية الفلسطينية.
تتحول (القضية 23) إلى قضية رأي عام وأعمال شغب مما يتدخل رئيس الجمهورية اللبنانية ويحاول حل القضية، الى أن كلام طوني مع رئيسه لا يدل على تربية مسيحية أو حتى أخلاقية منزلية متوسطة، وهو ما يجعلك تكره الشخصية أكثر وتتعاطف بشدة مع ياسر، إلى أن ينزلا من عند الرئيس بلا أي حل في مشهد خارجي نهاري شكله مفبرك لجعل حدث ما حيث سيارتهما عكس بعضهم.
يفتحان أبواب سيارتهما سوية وكأن الصراع مستمر، هنا يتنحى قليلا طوني ويسمح لياسر بالصعود وكأن المشهد من فيلم أمريكي قديم بالأسود والأبيض، ينطلق طوني بسيارته، بينما لاتدورسيارة ياسر، نرى صليبا خشبيا يتدلى من مرآة طوني الأمامية ليرى بأن سيارة ياسر لاتعمل، أيضا نعرف كمتفرجين بأن طوني سيرجع ليصلح سيارة ياسر، ربما بهذا الفعل التطهيري كان بإمكان دويري أن ينهي فيلمه، إلا أنه رد للقضاء اللبناني القول الفصل وتبرئة ياسر مرة أخرى عبر القاضية كوليت منصور(جوليا قصار).
الفيلم بصريا متواضع وخصوصا المشاهد الطويلة في قاعتي المحاكم، والتي إن أغمضت عينيك ستمع دراما إذاعية ثم تفتحهما لترى أداء وحركة مسرحية، لأنه محكوم بزوايا محددة وهي حال معظم المخرجين في الأماكن المحصورة، كأن الأجدر به اختصار المشاهد، علاوة على ضعف مصادر إضاءتة فهي واضحة رغم جلبه لمدير تصوير (دومينيك ماركومب) كمحترف الذي أراد بمشاهد الطائرة أن يرينا بيوت وعمارات بيروت بشعة لا يعتريها أي بقعة تعلن عن جمالها.
موسيقى (ايريك نيفيه) وضربات مفاتيح البيانو لم تساعد محتوى الفيلم ومحليته، أما إن كان جلب الممثل الفلسطيني كامل الباشا من القدس لأداء دور ياسر، والذي حصل في مهرجان البندقية في دورته الرابع والسبعون جائزة (كأس فولبي) كأفضل ممثل (تطبيعا )، فأنا أرحب بكل أهلي في فلسطين وخاصة القدس الحبيبة، إن كانوا يحملون لواء قضيتيهم للآن.
فيلم (القضية 23) للمخرج اللبناني زياد دويري رسخ مفاهيمي أكثروأكثر بقضية فلسطين العادلة والتي لن ولن تسقط، وكرهني أكثر وأكثر ببائعي الرسل والأوطان، إن كانت تلك رسالته فقد وصلت، وإن كانت رسالته غير ذلك فليسقط فيلمه ولتسقط اسرائيل.
عشتم وعاشت فلسطين.