بقلم : محمد حبوشة
أولا وقبل كل شيئ أعيب على المنتج الكبير (نصر محروس)، والذي كتبت عنه هنا في بروفايل بحب وتقدير واحترام في منتصف مارس الماضي، مشيدا بدوره في الغناء المصري وخاصة في مجال الأغنية الشبابية، فقد جاء تصرفه غير المحسوب، والذي تسبب له في سقطة أخلاقية كبيرة، عندما فكر في وضع الراقصة الإيطالية من أصل مصري (ليندا) ضمن محتوى كلييب المطرب الشعبي (مصطفى شوقي) والذي تم بثه قبل أسبوعين تحت عنوان (ضارب عليوي)، حيث كان هدف (محروس) الأساسي – كما عمد لذلك – هو زيادة المشاهدات على (اليوتيوب)، وقد حقق بالفعل هدفه ببلوغ مليوني مشاهدة في يومين فقط، وجراء موجة الانتقادات الحادة من الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي قرر حذف مشاهد الراقصة بحجة أنها تخدش الحياء العام.
والسؤال: ألم ينمو إلى علم محروس وهو يشاهد في أثناء المونتاج والمكساج وغيرها من أمور فنية تسبق طرح الكليب أنه سيخدش الحياء العام، وخاصة أن ابنه هو المخرج، أين كان عقله في تلك اللحظات؟، وهو المنتج الكبير الذي ساهم بلاشك في نشر الأغنية الشبابية في مصر خلال الثلاثة عقود الماضية وقدم لنا نجوما في الغناء مثل (شيرين، تامر حسني، بهاء سلطان وخالد عجاج)، وغيرهم من نجوم آخرين لم يتم ابتذالهم في كليبات مسفة أو خارجة عن السياق العام للمجتمع، مثل جاء في كليب المحروسة (ليند)، التي لم يعجبها حذف مشاهدها من الكليب وراحت تتهم المنتج الكبير بعدم التعامل معها بطريقة تعسفية، وهى القائلة أن ملابسها في الكليب لا تنتمي لبدلة الرقص الشرقي، وأنها راعت حرمة البيوت التي يدخلها الكليب، وقدمت اسكتشات خفيفة ومعبرة عن حالة الأغنية، وأنها قالت لنصر محروس محذرة: (أنا مصرية شرقية ومش عاوزه أكون سيكسي).
عن أي حرمة تتحدث تلك الراقصة الفجة التي تخصصت في نوعية رديئة من الرقص تعتمد على تصدرير مؤخرتها للجمهور وهى منحية تتلوي وترتعش كأفعي تنفث سمومها الجنسية عبر تأوهات وحركات غارقة في حالة نشوة من شأنها إثارة الغرائز ليس إلا، ، وكأنها تخترع أسلوبا جديدا في عالم الرقص الشرقي، وتعيد الانقلاب الذي أحدثه (تحية كاريوكا) في زمنها، أو تشبه سامية التي كانت من أجمل الراقصات فى تاريخ السينما، والتي عرفناها بخفة حركتها ورشاقتها وانطلاقها على المسرح مثل “الفراشة”، أو ربما قصدت الأخت (ليندا) بتعبيريتها التي قصدتها في كليب (ضارب عليوي) أنها تسير على نهج بديعة مصابني الراقصة اللبنانية السورية التي فتحت الباب لانتشار الرقص الشرقى فى مصرعن طريق مسرحها وفرقتها التي دربت عدد كبير من الراقصات الذين أصبحوا مشهورين في ما بعد، ومن ثم أصبح لديها رسالة في تعليم الراقصات أسلوبا تعبيرا جديدا عليهم.
وإذا نظرنا إلى (ليندا) نظرة متأنية سنجدها راقصة من الوزن الثقيل، ولا أقصد هنا على مستوى الجودة الفنية، بل أقصد أنها (وزن ثقيل يحسب بالكيلو جرام)، فعندما تتمايل يمينا أو يسار تتدلي منها كتل من اللحم الأبيض بطريقة تبعث على التقزز الذي يخاصم فن الرقص الشرقي في رشاقته وتعبيريته وسموه بالروح، وأغلب الظن هى لاتدري أنها مجرد إعادة استنساخ لنموذج راقصات الدرجة الثالثة اللاتي كن يوظفهن المخرجين في السينما على سبيل السخرية وإطلاق النكات عليهن من باب التسرية والفكاهة، ومن ثم فليس من حقها أن تفتي في أساليب الرقص الشرقي أو تشبه نفسها بأساطين الرقص الذين أبهجن الشاشة في زمن الفن الجميل وماتزال حتى الآن تابلوهاتهن الراقصة غاية في الروعة والجمال.
لقد ذكرتي تلك الدبة الراقصة (ليندا) بكتاب للمفكر المصري الراحل د. عبد الوهاب المسيري والذي حمل عنوان “دراسات معرفية في الحداثة الغربية” والذي تمتد فيه رؤيته البانورامية إلى أبعد مما كان يطرحه فكريا متناولا أغاني الفيديو كليب الذي يعتبر كثيرا من نماذجه تجسيدا لانفصال الفن عن القيم الإنسانية، ويرى المسيري أن الأغاني العربية كانت مركبة ومتنوعة حتى لو تضمنت إيحاءات ورموزا جنسية، فإن الكلمة المجردة تمنح مسافة للخيال في حين تؤكد أغاني الفيديو كليب جانبا واحدا هو الجانب الجنسي، فالراقصات الحسناوات – طبعا لم يكن يدرك أحجاما مثل ليندا وغيرها من راقصات هذا الزمان – لا يتركن أي مجال لخيال المشاهد لأن الصورة حسية ومباشرة ولا تترك مجالا للعقل أن يتأمل، حسب قوله.
ويضيف المنسيري في كتابه أن (الفيديو كليب يقدم الرقص باعتباره شيئا طبيعيا وجزءا من الحياة اليومية وبدل أن نذهب إلى الملاهي لنشاهد الرقص الجنسي الصارخ جاء هو إلينا، ولعل هذا ما حققه شريف صبري في أغنية روبي الأولى (عارف ليه) حين ظهرت تسير في الشارع بشكل عادي جدا ببذلة الرقص ثم ظهرت بملابس عادية واستمرت في نفس الرقص البلدي، وقد تناول الرحل العظيم ذلك في دراسة حملت عنوان “الفيديو كليب والجسد والحداثة”، حيث يقول المسيري (إن الرقص البلدي يهدف إلى الإثارة بشكل صريح، ولكنه لم يكن جزءا من حياة الناس الذين كانوا يشاهدونه في الأفلام وحفلات الزفاف باعتباره جزءا من حياة الراقصات اللاتي يطلق عليهن في مصر مصطلح العوالم).
وأخطر ما قاله المسيري أن (الفيديو كليب يختزل الأنثى والإنسان عموما إلى بعد واحد هو جسده فيصبح الجسد هو المصدر الوحيد لهويته، وهى هوية ذات بعد واحد لا أبعاد لها ولا تنوع فيها،وضرب مثلا في ذلك بأغنية روبي (ليه بيداري كده) قائلا: إنها إعلان أن الفتاة إن هي إلا جسد متحرك لذيذ، إنها في نهاية الأمر مفعول به)، متسائلا عن سبب عدم تحرك حركات تحرير المرأة لامتهان الأنثى بهذه الطريقة، ويقول إن خلفية الفيديو كليب تتنوع بامتداد المسافة من الهند إلى الولايات المتحدة ولا ترتبط بوطن أو هوية وهكذا يمكن وضعه – حسب قوله – في سياق العولمة، فجوهر العولمة هو عملية تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة والإنسان الذي يتحرك في هذه الوحدات هو إنسان اقتصادي جسماني لا يتسم بأي خصوصية، وليس له انتماء واضح لأن ذاكرته التاريخية قد تم محوها، ويربط المسيري بين أجساد راقصات الفيديو كليب والنظام العالمي الجديد مشيرا إلى مقولة للكاتبة الأميركية الراحلة (سوزان سونتاج) في كتابها “ضد التفسير” تذهب فيها إلى أن أكبر تحد للثوابت والعقل هو الجسد.
وبعد كلام الدكتور المسيري أضيف إلى سؤاله عن حركات تحرير المرأة سؤلا آخر: هل انتبه أحد من المسئولين عن الرقابة على المصنفات الفنية إلى الضجة العولمية – على طريقة المسيري في تحليل الظاهرة – التي افتعلتها الكتلة الحرجة (ليندا) معترضة على حذف مشاهدها في فيديو كليب (طالع عليوي)، معتبرة أن هذا نوع من الجور على حقوقها وإنه إساءة ونوع من الظلم الاجتماعي الذي وقع عليه جراء تصرف لم يأخذ رأيها فيه، ومن ثم فقد تحملت هى وحدها الفاتورة كاملة في الإساءة للمجتمع والحث على الفسق والفجور دون تحمل أطراف إنتاج الكليب المسئولية معها، وهنا أسألها عن مشاهدها الأخرى في كليب (بنت بلدي) ألكثر إسفافا وتدنيا لمغني شعبي يدعى (حمزة الصغير) صدر قبل أسبوعين أيضا في نفس توقيت الفيديو صاحب الأزمة ، وأعيد وأكرر أين مسئولي المصنفات؟، هل مازالوا يلتزمون الحجر المنزلي في ظل الموجة الأولى لكورونا، ودخلوا في حجر جديد مع ظهور الموجة الثانية المقدر لها أول سبتمبر؟!
وبتحليل أكثر عمقا لظاهرة الفيديو كليب عموما ومنها على وجه الخصوص من هو على شاكلة (ليندا) وغيرها من الراقصات المصاحبات للمطربين الذي يقومون بعمل فيديو كليبات أو برومهات للأفلام، لم أجد بد من العودة مرة أخرى للدكتور المسيري الذي قام بدراسة متأنية للفيديو كليب استغرقت ساعات طويلة لذيذة أمام التليفزيون ظل يقلب من قناة راقصة إلى أخرى أكثر عريا، حيث اكتشف أنه مما يساعد الفيديو كليب على اقتحامنا ما سماه “الرقص الأفقي”؛ – على طريقة (ليندا) في الانحناء وتصدير موخرتها – فكلنا يعرف الرقص الرأسي، وألفناه، فقد شاهدناه في الأفلام وفى الفنادق الخمس نجوم والكباريهات التي بلا نجوم، ولكنه كان رقصا رأسيا دائمًا، أما الرقص الأفقي فهو مختلف تماما إذ تنام الراقصة/ المغنية على الأرض (وهى نصف أو ربع عارية ثم تحرك ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة) لأسباب لا تغيب عن بال أي مشاهد.
هذا الرقص أكثر وقعا وتأثيرًا، وهو يدهشنا تماما، مما يجعلنا نستسلم لإغواء الصورة ونرفع الرايات البيضاء والخضراء والحمراء وكل الألوان الأخرى، إذ كيف يمكن للمشاهد أن يتفكر أمام هذه الصور الملونة بالألوان الطبيعية وغير الطبيعية لهذه الحسناء المتحركة الأفقية.
أما عن الرقص البلدي على طريقة البطة الداجنة (ليندا) فهو يهدف للإثارة الجنسية بشكل واضح وصريح، ولكننا كنا لا نراه إلا في الأفلام وفى الأفراح والليالي الملاح، فهو جزء من عالم (العوالم)، أي أننا كنا نعرفه بوصفه جزءًا من عالم مستقل عن عالمنا، قد نتمتع به وقد نرفضه، ولكن في كلتا الحالتين هو ليس جزءًا من عالمنا حاولت سعاد حسنى في (خللي بالك من زوزو) أن توسع من الإمكانات التعبيرية للرقص البلدي، إذ قدمت مرثية عالم أمها الراقصة التقليدية من خلال رقصة حزينة في حين كان شفيق جلال يغنى أغنية (لا تبكى يا عين على اللي فات ولا اللي قلبه حجر)، وفى تصوري أن هذه كانت المحاولة الأولى والأخيرة لفصل الرقص البلدي عن الإثارة الجنسية.
وقد لاحظت مؤخرا أن كل من تناول ظاهرة الفيديو كليب قد ركز على ظاهرة العرى، ولكنني أرى أن هذا يمثل جانبًا واحدًا من القضية، إذ يمكننا أن نسأل عن أثر الفيديو كليب على نسيج المجتمع وعلى بناء الأسرة؛ فالفيديو كليب لا يقدم مجرد أنثى تغنى وترقص وتتعرى وتتلوى أو تصاحب مطربا كحالة (ليندا)، بل إنه يعبر عن رؤية كاملة للحياة، نقطة انطلاقها هو الفرد الذي يبحث عن متعته مهما كان الثمن، المتعة في حالة الفيديو كليب متعة أساسا جنسية، ولذا فهي متعة بسيطة أحادية تستبعد عالم الموسيقى والطرب وجمال الطبيعة وكل العلاقات الإنسانية الأخرى.
والفيديو كليب بتركيزه على هذا الجانب وحده يسهم في تصعيد السعار الجنسي في مجتمع فيه أزمة زواج، ولكن من المعروف أن تصعيد السعار الجنسي مرتبط تماما بتصعيد الشهوات الاستهلاكية، وهذا ما أدركته تماما صناعة الإعلانات التليفزيونية، فمعظم الإعلانات تلجأ إلى الجنس لبيع السلع، فالسعار الجنسي يفصل الفرد عن مجتمعه وأسرته، وعن أي منظومة قيمية اجتماعية، فيحاول تحقيق ذاته من خلال منظومة المتعة الفردية والمنفعة الشخصية، والتي تترجم نفسها عادة إلى استهلاك السلع والمزيد من السلع (في مجتمع تعيش غالبيته إما تحت خط الفقر أو فوقه ببضعة سنتيمترات وجنيهات خاصة بعد ارتفاع سعر الدولار).
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل من سبيل لوقف هذا التدهور المستمر؟، هنا قد يقول البعض إن فى هذا تدخل في حرية الفكر والفن، والرد على هذا أن الفيديو كليبات ليست فكرًا وليست فنا ولا إبداعا، وإنما هى شكل من أشكال (البورنو) الذي يهدف إلى استغلال الإنسان وتحقيق الربح، الفن العظيم يتناول موضوعات شتى من بينها الجنس، ولكن الجنس (مثل العنف) لا يقدم في حد ذاته وليس هو الهدف، وإنما هو عنصر ضمن عناصر إنسانية أخرى، فالفن العظيم (على عكس البورنو) لا يهدف إلى الإثارة الجنسية وإنما إلى تعميق فهمنا للنفس البشرية، وإن كان أصحاب الفيديو كليب يطرحونه باعتباره فكرًا أو فنا فعليهم الالتزام بشرطين: أولهما ألا يحققوا أي ربح مادي منه، وثانيهما أن يثبتوا لنا اقتناعهم الكامل بهذا الفكر بأن يمارسوه في حياتهم الشخصية مع زوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم وأبنائهم، ولا أعتقد أن هناك من سيجد الشجاعة في نفسه أن يفعل ذلك.. أليس معى كل الحق في ذلك؟!.