25 عاما على رحيل الكروان الحزين “عماد عبدالحليم”
* العندليب أعطاه أهم دروس في حياته الفنية
* حلمي بكر منحه مرثية حياته وهى “في قلبي جرح”!
* الموسيقار محمد علي سليمان قدم له أجمل وأخلد أغنياته
* تبرع بكليته لوالدته فحقق الخلود في “مهما خدتني المدن”
* الأبنودي وجمال سلامة أضافا له بعد شقيقه المبدع
* شارك فايزة أحمد وهاني شاكر ومحمد ثروت في “الله ع الشعب”
كتب : أحمد السماحي
هو الإحساس يسير على قدمين، كتلة من المشاعر الصادقة التى منحها الله بدون حساب، كان طيبا يملك جمالا خفيا، وقلبا طيبا حنونا شديد الرقة، ونفسا شديدة العزة والكبرياء، وملامح تشي بكل أحزان وانكسارات وأفراح وانتصارات المصريين، فوجهه يعبر تعبيرا صادقا وحقيقيا عن تاريخ هذه الأمة، كان في سلوكه بساطة طبيعية غير زائفه، ولا تعرف كيف اختلطت بشرته السمراء بطين بلادنا ونيلها الجميل.
هو المطرب الراحل “عماد عبدالحليم” الذي نحتفل اليوم 20 أغسطس بمرور 25 عاما على رحيله، وهو الذي عشق أسرته، وأعطاها الكثير من وقته وجهده وماله، ولم يجد من يسمعه أو “يطبطب” عليه، أو يعتبر ما قام به من انحرافات بسيطة شقاوة شباب، حملنا هذا المسكين فوق طاقته، مات ورياح النكران بدأت تهب من حوله، وعواطف الأزمات والانتقادات والشائعات كانت قد أخذت تجتاح حياته، وملامح الحزن في عينيه كانت تزداد يوما بعد يوم، لهذا عندما لاح له ملك الموت رحب به على الفور، ولم يعانده أو يرفض أن يسير معه، لكنه استسلم له رحمة من قسوة الأيام والألم النفسي.
مشواره رغم قصره مليئ بالأسرار والكفاح والأحلام والمعاناة والضعف والهزائم والانتصارات، عاش حياته مخلصا لشيئ واحد هو الفن، لم يخلص لشيئ آخر، ولم يعط أبدأ أي جهد جدي أو حقيقي إلا للموسيقى والغناء وأسرته التى كان يتكفل بمصاريفهم جميعا رغم أن الفن في وقته لم يكن يدخل أموالا كثيره، فرض وجوده بأعماله الغنائية المتميزة، التى مازالت تعيش بينا حتى الآن، فمن منا يستطيع أن ينسى (ألوان، فى قلبي جرح، الضباب، ليه حظي معاكي يا دنيا كده، عجيب الحب جدا، لسه بدري، مهما خدتني المدن، طريق الأحباب، سفينة رسيت على المينا، يريد الله، صادني الهوا، مقسموالي، بعدين وياكي، مش أنتي لا، وقفة عتاب)، وغيرها من الأغنيات التى مس فيها شغاف قلوبنا بصدقه، وإحساسه الذي لا يضاهيه أي إحساس.
منصت جيد للقرآن
ولد “عماد الدين علي سليمان” فى حي محرم بيك في مدينة الإسكندرية يوم 4 فبراير عام 1960، لأسرة فقيرة جدا، لكنها تتنفس الفن، وتتذوق معانيه الراقية مكونة من أب وأم ومجموعة كبيرة من الأشقاء يصل عددهم إلى ثمانية، والده كان شيخ ملحني الإسكندرية، الملحن “علي سليمان” الذي كان من أفضل الملحنين في زمنه، وكان يحب الإسكندرية، ولم يكن يحب جو القاهرة والزحام، واكتفى بشغله في إذاعة الإسكندرية، ووالدته ست بيت طيبة، عاشقة للفن ومتذوقه لكل ما هو جميل وراقي، ولاحظ الأهل أنه وهو طفل صغير عمره خمس سنوات منصت شديد الإنصات للقرآن الكريم، حتى يكاد يحتضن الراديو، وبعض فترة بدأ اهتمامه بالموسيقى، وبدأ يدندن الأغاني ومن هنا اكتشفوا موهبته.
وعندما كان عمره اثنتي عشر عامًا، كان في الإسكندرية مسرح في “محطة الرمل”، يقدمون فيه طيلة شهر رمضان ليالي فنية ساهرة، وكان أهم مطربين ومطربات الإسكندرية تغني علي هذا المسرح مثل بدرية السيد، وغيرها من مطربي الإسكندرية.
عبدالحليم وأجمل صدفة
كانت هذه الحفلات تقام من الساعة التاسعة وحتى الحادية عشرة، أو من الحادية عشرة حتى الواحدة صباحًا، وكان (بروجرام غنائي)، وكان الموسيقار “محمد علي سليمان” هو من يقود الفرقة، وكان حب الفن بدا يتسلل إلى قلب “عماد الدين” هذا الغلام صاحب الاثنتى عشرة عاما، فاشتغل في هذا المسرح في رمضان، وأطلق عليه الطفل المعجزة، وكان يدعى في حفلات خاصة، وكان محبوبا كونه يغني غناء جميلا، حتى جاءت له حفل خاص، وكان فى هذا الحفل “عبد الحليم حافظ”، وبدأ “عماد” الغناء واستمع “حليم” وكان يردد “الله الله”، ومال على الموسيقار “محمد علي سليمان” وقال له: أخوك؟، قال: نعم، فقال له: “هاتوا وتعالى مصر يغني معي في حفلة الربيع”.!
حب الوطن والحب زي المعجزة
حضر “عماد الدين” بالفعل إلى القاهرة واشترك مع “حليم” فى حفل الربيع وغنى يومها أغنيتي “يا صلاة الزين” للشيخ “زكريا أحمد”، و”حب الوطن” للموسيقار “محمد عبدالوهاب”، وبدأت مرحلة التبني الكامل من “عبدالحليم حافظ”، حيث قام بتأجير شقة فى مدينة نصر ليقيم فيها، وجعل له راتبا شهريا، كما كان يقوم بكل مصروفاته الأخرى، وبعد نجاح حفله الأول معه، قرر أن يشاركه في كل حفلاته، وقال لشقيقه “محمد”: لابد أن يكون لـ”عماد” ألحانه الخاصة، وبالفعل اتفق “عبدالحليم” مع الشاعر “عبدالوهاب محمد” والموسيقار “حلمي بكر” على لحن خاص فغنى لهما “الحب زي المعجزة”، كما قدم له شقيقه “محمد علي سليمان” لحن من تأليف الشاعر “مصطفى الضمراني” بعنوان “خاف علي”، وغنى اللحنيين فى حفل “عبدالحليم” فى جامعة القاهرة في قاعة “جمال عبدالناصر”، وكان ذلك بعد الحفل الأول بستة أشهر.
مرحلة البلوغ
فجأة دخل مرحلة البلوغ وتغير صوته وجاء “عبدالحليم” بالأطباء والإخصائيين واستشارهم فقالوا له لابد لـ”عماد” فى هذه الفترة ألا يغنى لأن صوته بيتغير، وإذا ضغطنا عليه فسوف يصاب بكثير من الأخطاء، فاقتنع “حليم” وطلب منه أن يلتحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية حتى يستثمر هذه الفترة فى الدراسة، وبالفعل التحق بالمعهد وكان أثناء ذلك يصحبه فى سهراته الخاصة مع أصدقائه سواء فى فندقي “الشيراتون” أو “الهيلتون”، وكان يقول لهم : “خدوا بالكم من عماد حيبقى مطرب كبير”.
ألوان وفي قلبي جرح
بعد انتهاء مرحلة البلوغ جعل شركة “صوت الفن” تتعاقد معه على أول ألبوم فقدم “ألوان” الذي يتضمن أربع أغنيات هى “ألوان” كلمات الشاعر “عبدالرحيم منصور”، ألحان “أحمد فؤاد حسن”، “في قلبي جرح” كلمات “على مهدي” ألحان “حلمي بكر” الذي غني له أيضا أغنية الأغنيات الباقية وهى “شغلني نورك” كلمات “عبدالوهاب محمد”، “الغايب حجته وياه” كلمات سيد فرغلي.
درس عبدالحليم حافظ
كان “عبدالحليم حافظ” أستاذه الأول في الفن والحياة، وكان حريصا كل الحرص على أن يعلمه كل أخلاقيات ومبادئ الفن الأصيل، فعلمه كيف يعبر عن الكلام الذي يغنيه بوجهه وأحاسيسه؟، وعلمه كيف يتعامل مع الناس من حوله؟، وكان يقول له : يا عماد ياريت تحضر دايما بروفاتي لكي تشعر بالمعاناة الفنية، وحتى لا تتصور طريق الفن سهل، وعايزك تنظر إلي باستمرار عندما أغني لكي تتعلم كيف تتحرك وتتعامل مع الجمهور، ويجب أن تتحاشى أي حركة لا تعجب الناس أو لا تروق لهم.
وذات يوم كان “عماد عبدالحليم” يجري إحدى البروفات مع الفرقة الذهبية بقيادة المايسترو “صلاح عرام”، وحدثت من الفرقة جملة أخطاء جعلت “عماد” يتعصب عليهم، وعندما علم “عبدالحليم” بذلك استدعاه على الفور ووجده لأول مره غاضبا منه، وقال له:: كيف تتعصب على الفرقة؟!، وبعد أن هدأ علمه أن البروفات لتصحيح الأخطاء، وقال له: إن الفرقة مهمة جدا بالنسبة لك على المسرح، وأي تعصب منك ضدهم خطأ كبير.
وقال له مرة آخرى لا تغن أي شيئ إلا إذا أحسست به سواء كان كلاما أو لحنا، لأنك اذا لم تحس بما تغنيه فلن يصل أبدا إلى الناس.
هوالصدق نفسه
عمل “عماد عبدالحليم” بنصيحة “العندليب” لهذا نجده أعطى لأغنياته من مشاعره وأحاسيسه الكثير، لهذا عاشت أغنياته حتى الآن، وعندما نريد أن نستعيد معنى كلمة الإحساس الصدق فنرجع فورا إلى “عماد عبدالحليم” لندندن معه:
في قلبي جرح متخبي ولا مره شورت عليه
وناس تبكي وناس تشكي وانا جرحي
بداري فيه فيه بداري فيه
في قلبي جرح من الدنيا وعمايلها
وايامي الي ظلماني وبحايلها
كثير حولو يهدوني يذلوني يبكوني
ويشوف الدمع في عيوني
وبضحك للي ظالمني وتضحك ضحتكي مني
وبات والجرح متخبي ولا مره
شاروت عليه وناس تبكي وناس
تشكي وانا جرحي بداري فيه
بداري فيه بداري فيه….
تبرع بكليته لوالدته
مهما خدتني المدن
وفي عيد الأم لابد أن نتذكر ونسمع أغنيته المؤثرة المليئة بالحب والشجن والجمال “مهما خدتني المدن”، كلمات الشاعر الراحل “عبدالرحمن الأبنودي” وألحان “جمال سلامه”، والتى قام بغنائها بعد أن تبرع لوالدته بكليته، والتى يقول مطلعها:
مهما خدتنى المدن، وخدتنى ناس المدن
دايماُ صورتك في قلبي، دليلي فى المدن
اطوي المدن واجيكي عطشان لنور عينيكي
وارمي روحي عليك تطبطبي وتضمي
مابحسش بالبراح ده الا فى قلبك يا امي
ايوه فى قلبك يا امي….
ليه حظى معاكى يادنيا كده ليه
ومن منا عندما تقسو عليه الحياة والأيام لا يسترجع أغنيته المدمعة المطرزة بالشجن والحزن :
ليه حظى معاكى يادنيا كده ليه
ليه اتوه وياكى يادنيا كده
ليه فى الاحزان تفتكريني
وفى عز الفرحه بتنسيني
ارسملك ضحكه تبكينى
وتخلينى مش عارف
غير اليأس طريق
ولا شايف غير الحزن صديق
ولا قادر اهرب من ده وده
ليه حظى معاكى يادنيا كده
حبيبي
ومن منا عندما اتهمه حبيبه يوما بالخيانة لم يردد مع هذا الكراون الحزين أغنيته الجميلة الشجية “حبيبي” كلمات عبدالرحمن الأبنودي، وألحان “جمال سلامه” التى يقول مطلعها :
مانش خاين ولا باين عليا هخون
واخون ازاى وانا المحتاج
وانا العاشق وانا المجنون
حبيبى مفيش فى قلبى مفيش غير اسمك
اه غير اسمك متظلمنيش…
عماد عبدالحليم يتحدث
* تحدث الفنان “عماد عبد الحليم” في لقاء نادر له مع السيدة أمانى ناشد في الذكرى الأربعين لوفاة العندليب الأسمر “عبدالحليم حافظ” حيث قال: بدأت حياتي الفنية عندما كنت أبلغ من العمر 12 عاما، حيث ذهبت إلى وكيل الفنانين في الإسكندرية وتعاقدت معه على العمل في الحفلات الرمضانية، وكنت أغني يوميا بـ 30 قرش يوميا، وكنت لا أعرف وقتها شكل العندليب لأننا كنا عائلة فقيرة فلا نمتلك سوى الراديو، ولا يوجد معنا حق شراء المجلات والجرائد لأعرف شكله.
* وقال في لقاء نادر له مع الإعلامية “نجوى إبراهيم” إنه يميل إلى الحزن في حياته والأغنيات الحزينة هي الأكثر نجاحا معه ومثلما يوجد الشباب الذي يريد الأغنية الخفيفة، يوجد أيضا الشباب الحزين الذي يحب نوعية أغنياته.
أعماله الفنية
قدم الراحل على مدى مشواره الفني 14 ألبوما غنائيا، تتضمن حوالي 100 أغنية، كما قدم حوالي 50 أغنية آخرى في مناسبات وطنية لعل أبرزها أوبريت “الله ع الشعب” الذي لحنه الموسيقار “حلمي بكر”، وقام بالتوزيع الموسيقي “ميشيل المصري” وفرقة “هاني مهنى” الموسيقية، وشارك في الغناء “فايزة أحمد،عماد عبد الحليم ، إيمان الطوخي، أحمد إبراهيم، هيام هلال،هاني شاكر، محمد ثروت”، وهذا الأوبريت من إنتاج الإذاعة المصرية وتم تقديمه في الحفل الأول لتحرير سيناء وذلك عام 1982 م .
وقام ببطولة مسلسل “الضباب”، تأليف الكاتب ثروت أباظة، إخراج “فايز حجاب” بطولته مع صلاح منصور، كريمة مختار، هناء ثروت، خالد زكي، ليلي حماده، وأيضاً مسلسل “العندليب الأسمر” تأليف “نبيل عصمت”، إخراج فتحي عبدالستار، بطولته مع ” أحمد ماهر،حسين الشربيني، فردوس عبد الحميد.
وفي السينما قدم ثلاثة أفلام كبطولة مطلقة، كما ظهر وهو طفل في أحد الأفلام، والأفلام هى “كرامتي” بطولته مع “سعيد صالح ونجوي إبراهيم”، وفيلم “عذاب الحب” مع “مديحة كامل وصلاح نظمي وفاروق الفيشاوي” وفيلم “الأخوة الغرباء” مع فريد شوقي وشويكار وآثار الحكيم وزهرة العلا ووحيد سيف ووجدي العربي، كما حل ضيف شرف في فيلم “مذبحة الشرفاء” بطولة يحيى شاهين.
وقدم للمسرح عدة تجارب مسرحية هى “نعم ولا” للأطفال ومسرحية “للسيدات فقط” ومسرحية “النهارده آخر جنان”.
ويوم 20 أغسطس 1995 رحل عن حياتنا هذا الكروان الحزين، ليتركنا لغربان الملاهي الليلية والعابثين بالغناء الذين لا يدركون أهميته في تشكيل الوعي والثقافة للجمهور، وكان الله في عونك يا مصر!.