بقلم : محمد حبوشة
كان الراحل العظيم (سمير الاسكندراني) يملك حسا وطنيا فطريا، ربما بحكم النشأة في حي الغورية ذلك الشارع العريق الذي يقع في منطقة الجمالية في القاهرة الإسلامية، والتي كتب الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ ثلاثيته الشهيرة (قصر الشوق، السكرية، بين القصرين ) من قلب أجوائها الشعبية المميزة، وقد اشتهرت الغورية بنظام الوكالات في البيع والشراء منذ إنشائها والتي أصبحت الآن مباني آثريه فقط، وطبعا من أهم الوكالات في المنطقة هى (وكالة الغوري)، ولقد قضى الراحل الكبير في تلك المنطقة طفولته وصباه، وعاش مع والده الحاج (فؤاد) سهرات وأمسيات الأدب والفن والغناء، فوق سطح منزله هناك، حيث كان يعقد لقاء شهريا يوم الأحد الأول من كل شهر، مع أصدقائه من الشعراء والمطربين والملحنين، وامتزج نمو الفتي الصغير بأشعار بيرم التونسي ، وألحان الشيخ زكريا أحمد، وغناء والده بصوته العذب، وأحاديث السياسة والحرب والاقتصاد، ومن ثم يطيب لنا أن نحكي بطولته الحقيقية من واقع سجلات المخابرات العامة في السطور القادمة.
من الغورية لشارع عبد العزيز
تبدلت أحوال (سمير الاسكندراني) وتغيرت ظروف الأسرة الميسورة بحكم أن عائلها كان تاجرا للموبيليا، وانتقلت الأسرة من حى الغورية إلي شارع عبد العزيز، ليتغير هذا العالم كله من حول الفتى (سمير)، وتنقلب الحياة رأسا على عقب، فالطباع المصرية الأصلية اختفت وتوارت، لتحل محلها عائلات وتقاليد إيطالية ويونانية وإنجليزية وتحول عم سيد الصعيدي البقال البسيط إلي جورج باباكرياكو البقال اليوناني المتغطرس، وعم عبد الفضيل أصبح الخواجة أرتين، ولم تعد هناك جارتهم الست نبوية، بل أصبحت سنيورا ماريا، وابنتها الفاتنة يولندا.
ويولندا تلك بالذات كان لها أثر البالغ في تحويل ملامح حياة سمير، الذي وقع في حبها، وعشق من أجلها كل ما هو إيطالي حتى اللغة التي سرعان ما تعلمها، وقضى بصحبتها أمسياته الجديدة يرفل في الحب والسعادة، فوق سطح منزل شارع عبد العزيز وأمتزج بعصبة أمم مصغرة، من الشبان الإيطاليين واليهود، والذين حولوا حياته إلى شكل مختلف، ومن خلال يولندا، قرر أن يتعلم اللغة الإيطالية ويتقنها، حتى يتثنى له أن يعمق حبه ولواذع قلبه بلغتها الأم، وبالفعل تفوق سمير في دروس الإيطالية ونجح في الحصول على منحة دراسية في مدينة بيروجيا الإيطالية بعد أن رشحه السفير الإيطالي بالقاهرة، لدراسة الأدب واللغة في جامعتها الشهيرة.
السفر لإيطاليا بداية الطريق
سافر الشاب (سمير الاسندراني) ذو العشرين عاما، و قبل موعد دخول الجامعة بثلاثة أسابيع، ذهب ليزور والدة الدكتورة ماريا هايدر، الأستاذة بجامعة فيينا، التي دعته لقضاء السهرة في مرقص صغير، راح يراقصها فيه بكل مرح وبراعة، وضحكاتها تملا المكان، حتى ارتطمت قدمه عفوا براقص آخر، التفت إليه في حده يسأله عن جنسيته، وعندما أجابه بأنه مصري، ارتسم الغضب على وجه ذلك الراقص، ولوح بقبضته في وجهه، صائحا في مقت شديد: وأنا إسرائيلي، وفي لغة استفزازية قال: يوما ما سنحتل مصرك كلها، وعندئذ سأبحث عنك أنت بالذات، وسط الخراب والحطام الذي سيلحق بمصركم تلك، وأقتلك مرتين، ولكن قبل أن يتم عبارته، كانت قبضة سمير تحطم فكه، وتحول المكان كله إلي ساحة قتال.
في بيروجيا،استقر بسمير الإسكندراني المقام عند سنيورا كاجيني، التي عاملته كابنها، وأكرمت وفادته، وقضى في منزلها منحته الصيفية كاملة، وعاد إلى القاهرة، وكله شوق ولهفة، للقاء حبيبة القلب يولندا، وسكب عبارات الغزل الإيطالية في أذنيها، ولكن كانت هناك في انتظاره مفاجأة مؤلمة، لقد رحلت يولندا مع أورلاندو، صديقها القديم، ليتزوجا في أوروبا ونسيت أمره هو تماما، وكانت الصدمة قاسية عليه في بادئ الأمر، ولكنها لم تحطمه أو تخور قواه على أثرها السلبي، وإنما دفعته لمزيد من دراسته للغة الإيطالية، حتى حصل علي منحة دراسية ثانية، في جامعة بيروجيا، وسافر بالفعل إليها في الصيف التالي، ليقيم أيضا عند سنيورا كاجيني، ومن هنا نحكي قصة تجنيده من جانب أحد رجال المخابرات الإسرائيلية، والتي جاءت على النحو التالي:
من سجلات المجموعة 73 مؤرخين
تبدأ قصة تجنيده من جانب الموساد من أنه ذات يوم في مصافة غريبة، وهو يلعب البياردو في الجامعة، التقى بشاب ذكي، يجيد العربية بطلاقة مدهشة، ويتحدث الفرنسية والإيطالية والإنجليزية في براعة، إلي جانب إجادته لبعض ألعاب السحر، التي بهرت طلاب جامعة بيروجيا، وأدهشت سمير للغاية، وقدم الشاب نفسه باسم (سليم)، وسرعان من توطدت أواصر الصداقة بينهما، وأخبره أنه يعقد بعض الصفقات التجاري التي تتطلب سرعة التحرك والسرية الشديدة جدا، مما يبرر اختفاءه كثيرا عن بيروجيا، ثم ظهوره المباغت في فترات غير منتظمة، وهو يصطحب في معظم الأحيان فتيات فاتنات، وينفق عليهن في سخاء واضح، وعلى الرغم من انبهار سمير بهذا الشاب في البداية، إلا أن شيئا ما بعث في نفسه الكثير من الحذر الذي رسخ في أعماقه منذ أول وهلة، فراح يتعامل معه في بساطة ظاهرية، وتحفز خفي، نجح في التعامل بهما في مهارة، وكأنه ثعلب ذكي، يجيد المراوغة والخداع.
وذات يوم، أخبر أحد زملاء سمير أن هذا الشاب ليس عربيا، وأنه يحمل جواز سفر أمريكيا، مما ضاعف من شكوك سمير وحذره، فقرر أن يراوغ (سليم) أكثر وأكثر، حتى يكشف سر غموضه ويعرف ما يخفيه في قرارة نفسه، خلف تلك شخصيه المنمقة الجذابة التي يحاول من خلالها لفت الإنظار إليه، حتى جاء اليوم الذي قال له فيه سليم لسمير: إن طبيعتك تدهشني جدا يا سمير، فأنت أقرب إلي الطراز الغربي، منك إلي الطراز العربي، وبدأ سيل أسئلته يتدفق حول كيف نشأت بالضبط؟، وماهى ميولك واتجاهاتك في الحياة بصفة عامة.
اللعب على أوتار أصله اليهودي
في تلك اللحظة وجد سمير الفرصة سانحة أمامه، لمعرفة نوايا سليم وماذا وراءه بالضبط ، فأستغل معرفته الجيدة بطبائع المجتمع الأوروبي واليهودي، التي أكتسبها من أمسيات سطح شارع عبد العزيزفي بيت والده، وألف قصة سريعة، أختلقها خياله بدقة وسرعة مدهشتين، ليدعي أن جده الأكبر كان يهوديا مصريا وأسلم وليتزوج جدته، وادعى أنه لم ينس أصله اليهودي، بل أن الأمر دفع والده نفسه إلي الهجرة للقاهرة، حيث عرف أمه، ذات الطابع اليوناني، وتزوجها، وأنه أكثر ميلا لجذوره اليهودية، منه للمصرية، وجراء تلك القصة سقط سليم في فخ الثعلب المصري الذي أحسن تقديره للأمور، وأندفع يقول في حماس: كنت أتوقع هذا، أنا أيضا لست مصريا يا سمير، أنا يهودي.
ارتسمت ابتسامة ماكرة على جه الثعلب الكامن في أعماق بطلنا في سخرية ولمعت عيناه الحادتين في ذكاء، عندما أدرك أن لعبته قد نجحت، ودفعت سليم لكشف هويته، ولكن اللعبة لم تقتصر على هذا، فبسرعة قدم سليم صديقه إلى رجل آخر أعلى منه منزلة – كان بالطبع يعمل في جهاز المخابرات الإسرائيلية – يحمل اسم جوناثان شميت، ثم اختفي تماما، بعد أن انتهت مهمته باختيار العنصر الصالح للتجنيد، وجاء دور جوناثان لدراسة الهدف وتحديد مدى صدقه وجديته، وأدرك سمير أنه تورط في أمر بالغ الخطورة، ولكنه شيئا ما بداخله جعله لم يتراجع، بل مضى يقنع جوناثان، الذي لم يكن سوى أحد ضباط الموساد الإسرائيلي بكراهيته للنظام، ورغبته بشكل متوار في البداية في العمل ضده، حتى عرض جوناثان عليه العمل لصالح ما أسماه بمنظمة البحر الأبيض المتوسط، لمحاربة الشيوعية والاستعمار، مقابل راتب شهري ثابت، ومكافآت متغيرة، وفقا لمجهوده وقيمة الخدمات التي يمكنه تقديمها.
وافق سمير على الفور ودون إبداء أي نوع من التردد، وبدأ تدريباته على الحبر السري، والتمييز بين الرتب العسكرية، ورسم الكباري والمواقع العسكرية، وتحديد سمك الخرسانة، ثم طلب جوناثان من سمير التطوع في الجيش عند عودته إلى مصر، وأعطاه مبلغا كبيرا من المال، ومجلة صغيرة للإعلان عن ناد ليلي في روما، مطبوعة فيه صورته وهو يغني في بعض السهرات، كنوع من التبرير لحصوله على المال.
في تلك الأثناء عاد سمير إلي بيروجيا ليستقبل شقيقه الوحيد سامي، الذي حضر ليقضي معه بعض الوقت، قبل سفره إلي النمسا، وقضى سمير فترة إجازة شقيقه كلها في توتر شديد، ثم لم يلبث أن حسم أمره فأيقظه في أخر لياليه في بيروجيا، وقبل سفره إلي النمسا، وروى له القصة كلها، ثم طالبه بالكتمان الشديد، لكن سامي أصيب بالهلع، لما رواه له شقيقه، وطلب منه الحرص الزائد، والتوجه فور عودته إلي مصر، إلي مبنى المخابرات العامة، ليروي لها كل ما لديه، وكان هذا ما قرره سمير بالفعل، وما استقر رأيه عليه، ولكنه في الوقت ذاته كان يصر علي ألا يخاطر بما لديه من معلومات، وبألا يبلغ بها سوي شخص واحد في مصر هو الرئيس جمال عبد الناصر نفسه، وفور عودته إلي القاهرة، وعن طريق أحد أصدقاء والده، تم الاتصال بالمخابرات العامة وبمديرها صلاح نصر، الذي بذل قصارى جهده لينتزع ما لديه من معلومات.
الإصرار على لقاء عبد الناصر
ومن جانبه أصر سمير في عناد شديد على ألا يبلغ ما لديه إلا للرئيس جمال عبد الناصر شخصيا – وقد كان – ولقد استمع الرئيس جمال في اهتمام شديد، إلي القصة التي رواها سمير، وشاهد مع مدير المخابرات تلك الحقيبة التي أعطاها جوناثان له، بجيوبها السرية، والعملات الصعبة، والحبر السري وغيره من أدوات التجسس، التي تطلع إليها الرئيس كلها، ثم رفع عينيه إلي سمير وقال له: أعتقد أن دورك لم ينته بعد يا سمير.. أليس كذلك؟، أجابه الشاب في حماس شديد: أنا رهن إشارتك يا سيادة الرئيس، ودمي فداء لمصر، وكان هذا إيذانا ببدء فصل جديد من المعركة.. الفصل الأكثر خطورة.
بدأ سمير يعمل لحساب المخابرات المصرية، وتحت إشراف رجالها، الذين وضعوا الأمر برمته على مائدة البحث، وراحوا يقلبونه علي كل الوجوه، ويدربون الشاب على وسائل التعامل، وأسلوب التلاعب بخبراء الموساد، ولكن سمير بدوره كان ثعلبا حقيقيا، حيث استوعب الأمر كله في سرعة وإتقان، وبرزت فيه مواهبه الشخصية، وقدرته المدهشة علي التحكم في انفعالاته، وبراعته في التعامل مع العدو، فراح يرسل معلومات سرية عن مواقع عسكرية ومراكز قيادية، ومعلومات عن برج القاهرة، الذي كان محطة رادارية مهمة في ذلك الوقت، ومواقع أخري لها فاعليتها الاستراتيجية، دون أن يتجاوز قدراته الحقيقية، أو يبدي حنكة غير عادية، يمكنها أن تثير شكوك العدو.
وذات يوم، طلب جوناثان من سمير تجنيد أحد أقاربه من العسكريين، وكان هذا القريب رجلا ناضجا يفوق الشاب عمرا وشخصية، ولم يكن من المنطقي أن ينجح سمير في تجنيده، لذا فقد اعتذر مبديا أسبابه، ومعلنا عدم استطاعته هذا، مما جعل جوناثان يطمئن لصدقه، فلو استجاب لمطلب عسير كهذا، لراود العدو الشك في مصداقيته وإخلاصه، وقطع علاقته به مباشرة، ولكن جهاز المخابرات المصري كان يقظا، وسمير كان ذكيا حريصا وكتوما، وربما كانت هذه الصفة الأخيرة سببا في كثير من المشكلات، التي واجهها خلال مهمته تلك، فعلي الرغم من أن والده كان يعلم بأمر ذهابه الي المخابرات، فور عودته من ايطاليا، إلا أنهم أفهموه هناك إنها مجرد شبهات بلا أساس، وان ابنه بالغ كثيرا في أمر لا يستحق، وطلبوا من سمير أن يخفي عن والده تماما أمر عمله معهم حتى يحاط الأمر بأكبر قدر ممكن من السرية.
والده يطرده من البيت ليلا
ولكن والده لم يتقبل غيابه الطويل، ولا عودته ذات ليلة متأخرا، فثار في وجهه، وطرده من المنزل، والشاب يتمزق حزنا، ولا يستطيع تبرير موقفه أمام والده، الذي يعتبره طيلة عمره مثله الأعلى، ولكن الأقدارتلعب لعبتها، فلو لم يطرد الحاج فؤاد ولده هذا الليلة، لفشلت العملية كلها وربح الموساد اللعبة، فسبب التأخير هو أن سمير كان يعد خطابا خاصا للعدو، بمعاونة ضابط اتصال من المخابرات المصرية، ورسم فيه بعض المواقع العسكرية، ولكنه أخطا في بعض الرموز العسكرية الهندسية، فأصلحها له ضابط الاتصال في عفوية، بفضل خبرته ودراساته العسكرية القديمة، مما اضطر سمير إلى أعادة صياغة الخطاب مرة أخري برموزه الصحيحة، وحمله معه ليرسله الي جوناثان بالطرق المألوفة، ولكنه وصل الي منزله متأخرا، فطرده والده، واضطر للمبيت عند زميل له من أصل ريفي، وأصابته نوبة أنفلونزا، بسبب انتقاله من وسط المدينة إلي إمبابة في الليل البارد، فسقط طريح الفراش طوال الأسبوع، ولم يرسل الخطاب.
وفي الوقت نفسه، انتبه ضابط الاتصال إلى أنه من غير الطبيعي أن يرسم سمير الرموز العسكرية الهندسية الصحيحة، وهو لم يتعلمها علي يد جوناثان وفريقه، وأنه من المفروض أن يرسل الرسوم غير الصحيحة، فأنطلق يبحث عنه ويدعو الله إلا يكون قد أرسل الخطاب، وإلا أدرك الإسرائيليون أن هناك من يرشده، وتفشل العملية كلها، وعثر الضابط على سمير، وحمد الله سبحانه وتعالي على أنه لم يرسل الخطاب، فأخذه منه وجعله يكتبه مرة أخري كما كان في البداية، وبدون تصحيح، وأرسله الي جوناثان، وطوال الوقت كان سمير يشكو في خطاباته الي جوناثان من احتياجه الشديد للمال، ويهدد بالتوقف عن العمل، لو لم يعملوا علي إخراجه من ضائقته المالية.
وزيادة في الحرص كان يرسل لهم عشرات المعلومات والصور في الوقت نفسه، والتي سال لها لعابهم، وجعلتهم يتأكدون من أنه عميل عظيم الأهمية، يستحيل التضحية به لأي سبب من الأسباب، فطلبوا منه استئجار صندوق بريد، وأخبروه أنهم سيتدبرون أمر تزويده بالنقود المطلوبة، ووصل ثلاثة ألاف دولار إلى صندوق البريد، داخل عدة مظاريف وصلت كلها من داخل مصر، لتعلن عن وجود شبكة ضخمة من عملاء إسرائيل، تتحرك في حرية داخل البلاد وتستنفذ أسرارها وأمنها، وبدأت خطة منظمة للإيقاع بالشبكة كلها، ولكن الإسرائيليين استدعوا سمير، وطلبوا منه السفر بسرعة إلى روما، وهناك أخضعوه لاستجواب عسير، انتهى إلى مضاعفة ثقتهم به، وعودته لمصر بأوامر وتعليمات وطلبات جديدة.
الإيقاع بأكبر شبكة تجسس
استأجر شقة في شارع قصر العيني، وأرسل يطالب جوناثان بالمزيد من الأموال، لتغطية النفقات ومصاريف تأسيس الشقة، وأعلن خوفه من إرسال الأفلام التي يلتقطها للأهداف الحيوية، خشية أن تقع في أيدي الجمارك ورجال الرقابة، فأرسل إليه جوناثان رقم بريد في الإسكندرية، وطلب منه إرسال طرود الأفلام إليه، وسيتولى صاحبه إرسالها إلي جوناثان نفسه، وبدأت خيوط الشبكة تتكشف شيئا فشيئا، وعيون رجال المخابرات المصرية تتسع أكثر وأكثر، في دهشة وعدم تصديق، لقد كانت أضخم شبكة تجسس عرفها التاريخ، منذ جواسيس قيصر روسيا، في بدايات القرن، ومعظمها من الأجانب المقيمين في مصر، والذين يعملون بمختلف المهن، ويحملون جنسيات مختلفة.
ومنهم كان مصمم ديكور يوناني، وموظف فندق إيطالي، ودبلوماسي ألماني، وجرسون ومدرس وممرضة، ومن هنا أدركت المخابرات المصرية أنها أمام صيد هائل، يستحق كل الجهد المبذول، وقررت أن تعد خطتها بكل دقة وذكاء، وتستعين بقدرات سمير الثعلبية لسحق الشبكة كلها دفعة واحدة، في أول عمل من نوعه، في عالم المخابرات.
وبخطة ذكية وأنيقة، استطاع سمير إقناع المخابرات الإسرائيلية بإرسال واحد من أخطر ضباطها إليه في القاهرة، وهو موسى جود سوارد، الذي وصل متخفيا، ولكن المخابرات المصرية راحت تتبع خطواته في دقة مدهشة، حتى توصلت الي محل إقامته، وإلى اتصالاته السرية برجلين هما رايموند بترو، الموظف بأحد الفنادق، و هيلموت باوخ، الدبلوماسي بأحدي السفارات الأوروبية، والذي ينحدر من أم يهودية، ويتولى عملية إرسال العمليات إلي الخارج، مستخدما الحقيبة الدبلوماسية بشكل شخصي.
وبضربة مباغته، ألقت المخابرات المصرية القبض على موسى، وتحفظت عليه، دون أن تنشر الخبر، أو تسمح للآخرين بمعرفته، وتمت السيطرة عليه ليرسل خطاباته بنفس الانتظام الي الموساد، حتى يتم كشف الشبكة كلها، والإيقاع بكل عناصرها، وكسرب من الذباب انطلق في وجهه مبيد حشري قوي، راح عملاء الشبكة يتساقطون واحد بعد الآخر، والحقائق تنكشف أكثر وأكثر، ودهشة الجميع تتزايد وتتزايد، ثم كانت لحظة الإعلان عن العملية كلها، وجاء دور الإسرائيليين لتتسع عيونهم في ذهول، وهم يكتشفون أن الثعلب المصري الشاب سمير الاسكندراني قد ظل يعبث معهم ويخدعهم طوال عام ونصف العام، وأنه سحق كبريائهم بضربة ذكية متقنة، مع جهاز المخابرات المصري، الذي دمر أكبر وأقوي شبكاتهم تماما، وفكروا في الانتقام من الثعلب بتصفية شقيقه سامي، ولكنهم فوجئوا بأن المخابرات المصرية قد أرسلت احد أفضل رجالها لإعادته من النمسا، قبل كشف الشبكة.
فضيحة إسرائيل في العالم
كانت الفضيحة الإسرائيلية عالمية، وكان النصر المصري ساحقا مدويا، واستمع سمير إلي التفاصيل وهو يبتسم، ويتناول الطعام بدعوى شخصية من الرجل الذي منحه كل حبه وثقته، وعلى مائدة تضم الرجل وأسرته، في منزلهم البسيط، لقد دعاه الرئيس جمال عبد الناصر، ليكافئه على نجاحه في تلك اللعبة، التي أثبتت انه ليس فنانا عاديا، أو مواطنا بسيطا، بل هو يستحق وعن جدارة، ذلك اللقب الذي أطلقوه عليه في جهازي المخابرات المصري والإسرائيلي، عندما تسبب نجاحه في استقالة مدير المخابرات الإسرائيلية ومن هنا استحق لقب الثعلب المصري ( سمير الاسكندراني) .. رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما أعطى لمصر من روحه وقلبه فداء لترابها الغالي، وفوق ذلك قدم لها أروع أغانية الوطنية التي تمنى في إحداها أن يكون مجرد طوبة في جدار يبني سياجا منيعا حول هذا الوطن.