بقلم : حليمة خطاب
فى فيلم صاحب المقام نسى كثيرون فرض التأدب فى حضرة الفن ، واستدرج كثيرون مجتمعا بأكمله إلى خانة يستحيل اقترانها بالفن بأى حال من الأحوال، فذهب أحدهم مستخدما لفظة فنية حتى النخاع وكتبها بحروف عربية رغم أنجليزيتها “ريفييو” لتكون مصوغا لنقد الفيلم إسلاميا، فى تعليق لا يستوى أن يطلق عليه سوى الكلمة المتداولة فى مثل هذه الأحوال بلغة أهل مواقع التواصل الإجتماعى (هبد).
ذهب الأخ السلفى مفندا فكرة التبرك بالأولياء الصالحين والأضرحة متهكما على فيلم (صاحب المقام) وكاتبه فى منشور لا يليق به إلا أن يوزعه أمام المساجد عله يلقى جمهورا، بينما كتب آخر (سلفى أيضا) من نفس النقطة (الحلال والحرام) جامعا إبراهيم عيسى وطه حسين فى جملة واحدة باعتبارهما من التنويريين فى ربط ينم عن جهل مطبق بالفارق بين الرجلين أو حتى ما تعنيه فى حقيقة الأمر كلمة تنويريين.
لن أناقش هنا الجملة الخالدة التى نقشها الناقد سمير فريد على جدران محراب السينما: (أن لا أخلاقية العمل الفنى هى الأخلاقية الوحيدة)، فظنى أنهم لن يفهمونها على الإطلاق، المثير للعجب فقط هى قدرة هذا التيار المبهرة من سلفيين حتى إخوان وما بينهما على اختراق الموانع للنيل من أعدائهم بمناسبة وغير مناسبة، فما الفيلم أو الرواية التى أدعى البعض سطو مؤلف الفيلم عليها، أو السيناريو الذى ربط كثيرون بينه وبين سيناريو فيلم إسرائيلى بعنوان (مكتوب)، إلا ذريعة لدى هذا التيار كاملا على النيل من إبراهيم عيسى وغيره، وإقحام الحلال والحرام مرة أخرى فى شأن يستحيل أن يقترن بهذه الثنائية من الأساس .
فى فيلم صاحب المقام، تستفيض المشاهد الأولى فى الاقتراب من حالة رجل الأعمال (يحيى/ آسرياسين) المستأسد بقوته ووضعه المادى، والذى يعيش فى نعيم مع زوجته (راندا/ أمينة خليل)، ولا تتحصل هى على أقل القليل من اهتمامه، وطفل لا يعرف فى أى سنوات الدراسة يكون .
ينشغل رجل الأعمال ببناء منتجع سكنى راق بمعاونة مساعديه التوأمين (حليم وحكيم / بيومى فؤاد)، ومن أجل إتمام المشروع تظهر ضرورة إيجاد حل لضريح يعتقد أهالى المنطقة أنه لولى جليل، وبينما يعارض أحد مساعديه فكرة هدم الضريح يشجع توأمه الآخر رجل الأعمال على فكرة هدم الضريح، وبمجرد أن ينهدم الضريح تنقلب حياة رجل الأعمال رأسا على عقب وتدخل زوجته فى غيبوبة مبهمة، لا يعرف سببها حتى الأطباء.
وينسحب هو فى نداء من سيدة مجهولة الهوية (روح/ يسرا) لإرضاء الأولياء الصالحين حتى يهتدى يحيى إلى فكرة كانت هى بذاتها تكفى لتكون قصة الفيلم ومحوره بدلا من تلك المقدمة الكاريكاتورية بامتياز، تنبه يحيى إلى الخطابات التى يحويها ضريح الإمام الشافعى من سائلين وطالبين للمساعدة، فقرر أن يلبى حاجة كل الطالبين وكل السائلين فى مهمة كانت تليق بفتح أفق أكثر فلسفية وأكثر إنسانية وتبتعد عن سفسطة دينية لا تليق بفيلم سينمائى.
أن يقرر شخص ما أن يتحمل مشقة وصعوبة وتعقيد مساعدة آخرين لا يعرفهم على الإطلاق مهمة لا يتحملها سوى القليلين، لينفتح عالم البسطاء المتنوع والثرى رغم تواضعه، وعندما تتحقق الأمانى/ إرضاء الصالحين تنتهى غيبوبة الزوجة / الاختبار، وينتهى الفيلم.
يتبنى سيناريو الفيلم جدلية دينية هامشية ويجعلها محورا لعمل فنى سينمائى فى سابقة غريبة ليست ذات جدوى لا شكلا ولا مضمونا، فلا هو سيناريو فيلم دينى تاريخى كتلك الأفلام التى قدمتها السينما المصرية قديما (وأسلاماه ، فجر الأسلام)، ولا هو فيلم يناقش وضعية المسلم المعاصر بين أفكار أصولية وواقع متشابك ومتجدد كما تقدم أفلام الشباب العربى فى مهرجانات السينما حديثا، ولا هو اقترب حتى من نموذج فردى يخص علاقة الفرد بربه كما فعلاها بعبقرية شديدة السيناريست هانى فوزى والمخرج أسامة فوزى فى فيلم “بحب السينما ” عام 2004.
نحن فى العام 2019 سنة تصوير الفيلم على الأقل ولا يعطينا كاتب الفيلم مصوغا منطقيا لمناقشة هذه الفكرة الهامشية، بل يقع السيناريو منذ اللحظات الأولى فى محظور التوقع الذى يقتل الإثارة والاندهاش والإعجاب ويحفز على المتابعة، وفى اختياره لتشابك شخصيات الفيلم وقع السيناريو مرة أخرى فى سهولة النماذج المختارة من عامة البسطاء ، فهذه سيدة كانت عاهرة (هنادى/ فريدة سيف النصر) فيما مضى وتابت إلى ربها لكنها فى حاجة إلى إشارة لقبول التوبة، وهذه أسرة فقيرة تموت طفلتها هاجر بسبب فقر أب مدمن/ محمود عبد المغنى ، و أم تعمل فى بيوت الآخرين / أنجى المقدم، وهذا عاشق ولهان/ محمد ثروت تمنى أن يتزوج من محبوبته/ إيمان السيد ، وهذا أب/ إبراهيم نصر حرم من ابنه الشاب/ محمد عادل ويتمنى عودته، وتلك فتاة تعانى مع زوج أمها/ محمد لطفى وترغب فى الخلاص، وهذه سيدة كبر أبناؤها وتتعفف عن السؤال رغم الحاجة/ سلوى محمد على، بل وتنصف جارتها/ سلوى عثمان عند الفوز بجائزة مالية.
قصص يسهل التقاطها وتوقعها من الوهلة الأولى، أنقذها مخرج الفيلم محمد العدل أكثر من مرة، المرة الأولى فى اختياره الجيد للممثلين، وفى تنوعيته الكبيرة التى بذل فيها مجهودا فنيا وإنسانيا ليلتقط ويتذكر ممثلين كبار نسيتهم الشاشة الفضية فى سيل أفلام ذات نوع واحد لا تنتبه إلا إلى الصغار، والثانية فى ضبطه إيقاع تلك القصص وتركه مساحة كافية لإبداع أصحاب الأداء القوى (إبراهيم نصر، محمود مسعود ، سلوى محمد على)، وأنقذها مرة ثالثة فى جمالية المشاهد وثرائها ليبقى اختياره لثلاثة أدوار عالقا دون تبرير: روح / يسرا ، خادم المسجد/ محسن محى الدين ، السيدة التى صفعت البطل على وجهه دون سابق إنذار داخل المسجد/ هالة فاخر . وتظل جملة (روح) بلا إجابة شافية… مش مهم أنا مين ، المهم أنا ليه.. ليه ؟.