محمد ملص .. منح الأدب مذاقا بصريا والسينما مذاقا أدبيا
* يدين بعمله الأدبي إلى الروائي “صنع الله إبراهيم” الذي شاركه غرفته أثناء دراسته في معهد السينما في موسكو.
* بدأ حياته روائياً قبل أن يحقق أياً من أفلامه الروائية، فخلال دراسته للسينما في موسكو، كتب روايته “إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب”
* “مذاق البلح” يضم نصوصاً تكتسب أهميتها من صياغتها اللغوية الواضحة والسهلة، ومن كونها ترسم ألواناً متعددة خلال أزمنة مختلفة.
كتب : أحمد السماحي
في بداية مشواري الصحفي ارتبطت بعلاقة صداقة مع المخرج السوري مرهف الحس “محمد ملص”، هذا المبدع الذي لم نستفد منه الاستفادة الكاملة، ولم يخرج من موهبته إلا جزءا قليلا جدا نظرا لظروف خاصة فى بلده سوريا، وإذا كان بعض زملائي يحسدونني على أن في أرشيفي كم كبير جدا من الحوارات مع نجوم الزمن الجميل، فهذا راجع إلى نصيحة هذا المبدع، إذ قال لي يوما ونحن نتحدث فى شقته في حي الدقي بالقاهرة: أحمد سجل حوارات مع أكبر قدر ممكن من النجوم الموجودين من الأجيال القديمة لتعيش زمن جميل لم تعيشه، وتشم وتتعطر برائحة هذا الزمن الجميل، حتى إذا ما وجدت جهه ما تنشر لك هذه الحوارات ستفيدك جدا هذه الحوارات!” وقد كان.
أصون كرامتي
بحكم قربي منه وجدته فارسا نبيلا راقيا محب للعمل وللدقة والنظام، يرفع شعار”أصون كرامتي من قبل فني”، فعندما شعر قبل سنوات طويلة أن تحقيق أي فيلم له من إنتاج المؤسسة العامة للسينما فى سوريا قد بدأ يتطلب منه المزيد من التنازلات الفكرية والرقابية والمساس بـ (الكرامة المهنية)، فقد اتخذ لنفسه مساراً آخر لتحقيق أهداف أفلامه بعيداً عن المؤسسة كمنتج، والسعي لتحقيق “سينما مستقلة”، صحيح أنه مسار أكثر صعوبة، خاصة بغياب القطاع الخاص، لكنه مسار يجنبه المساس بمشروعه وفيلمه.
القنيطرة وحلم مدينة صغيرة
ولد المخرج “محمد ملص” في القنيطرة بالجولان السوري المحتل عام 1945، بعد دراسته الثانوية درس الفلسفة في جامعة دمشق، ثم أنهى دراسة السينما في الـ V.G. I. K موسكو 1974، حقـق خـلال دراسته ثلاثة أفلام روائـية قصيرة هى: (حلم مدينة صغيرة، اليوم السابع، الكل في مكانـه وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط).
وكان أول أفلامه الروائية الطويلة فيلم (أحلام المدينة) الذي نال عليه عدداً كبيراً من الجوائز العربية والعالمية، ثم قدم فيلمه (الليل) عام 1992، الذي حصل على جوائز عدة، وعرض في الكثير من المهرجانات العربية والعالمية، وصدر نصه في كتاب تحت عنوان (الليل – مفكرة سينمائي) عام 2002، وبينهما وبعدهما أفلام قصيرة ووثائقية مثل (قنيطرة 74، الـذاكرة، فــرات، فوق الرمل تحت الشمس،نـور وظـلال،المنام) والأخير يعالج فيه أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، و(باب المقام، وحلب مقامات المسرة) لنصل إلى فيلمه الأخير (سلم إلى دمشق)، الذي يستحضر الوضع في دمشق الآن، والذي عرض أيضا في مهرجانات كثيرة.
رأس حربه المخرجين
ينتمي (محمد ملص) إلى سينما المؤلف مخرجاً، وقدم خلال مشواره الفني أعمالا سينمائية تسجيلية وروائية مختلفة ومتميزة، جعلته يحظى بذلك الوصف المعبر عن تقدير بالغ لإنتاجه السينمائي، من إدارة المهرجان الدولي لسينمات آسيا في فيزول (شرق فرنسا) التي منحته جائزة (سيكلو) الذهبية، لكونه – حسب وصفها – رأس حربة المخرجين المؤلفين في السينما السورية.
تأثير صنع الله إبراهيم
اليوم لن نتحدث عن السينمائي (محمد ملص) وأفلامه الهامة، ولكن في بابنا “نجوم لكن أدباء” سنتحدث عن عمله بالأدب وإصداره لأكثر من عمل أدبي سواء فى هيئة رواية أو يوميات، فقد وضع لنفسه مهمة محددة في علاقته بالسينما وعلاقته بالأدب، لقد أراد للسينما التي ينجزها أن تكون ذات مذاق أدبي، وهذا يعني أن جوهر القضية في مشروعه الفني هو أن يخلق سينما ذات مذاق أدبي، وأدبا ذا مذاق بصري.
ولعل كثير من القراء لا يعرفون أن (ملص) بدأ حياته روائياً قبل أن يحقق أياً من أفلامه الروائية، فخلال دراسته للسينما في موسكو، آواخر ستينات القرن العشرين المنصرم، كتب روايته (إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب)، وربما كتبها بتأثير من الروائي المصري (صنع الله إبراهيم) الذي شاركه الغرفة نفسها أثناء سنوات الدراسة، وهو يقول عن هذا: أما هواء العدوى الأدبية، فأنا مدين به إلى الروائي (صنع الله إبراهيم) إذ تشاركنا الغرفة (403) أثناء دراستي في معهد السينما في موسكو، وكان معظم وقته يجلس وراء الآلة الكاتبة غارقاً في إنجاز (نجمة أغسطس)، فأصابتني عدوى لوثة الكتابة، ونظرا للرقابة السورية فقد تأخر طرح الكتاب لمدة عشر سنوات.
ثم كان كتاب (المنام… مفكرة فيلم – 1990) عن دار الآداب في بيروت، وبعده (الليل- سيناريو سينمائي – 2003) عن دار كنعان بدمشق، ثم مفكرته الجميلة جدا (الكل في مكانه، وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط – 2003) عن دار المدى، والذي يستعيد من خلالها مناخات وتجربة فيلم تخرجه من معهد السينما الذي كتبه بالشراكة مع صنع الله إبراهيم عن المعتقلات السياسية، وزمن جمال عبد الناصر وهزيمة يونيو 1967، أما في كتابه (مذاق البلح – 2011) الصادر عن دار رفوف بدمشق، والذى سنتوقف عنده اليوم فنقرأ فيه بعضاً من مذكراته وأيامه وحياته في موسكو وبرلين وغيرهما.
مذاق البلح
يقع الكتاب في 190 صفحة من القطع المتوسط، ويتنقل فيه (ملص) بسلاسة وجاذبية كبيرة بين يوميات الانكسار والملل والإحباط التى عاشها مع رفاقه فى موسكو إلى يوميات البهجة والمرح وشقاوة وعفوان الشباب، فأحيانا يكون (مذاق البلح) لاذعاً حاداً، وأحياناً عذبا جميل المذاق والطعم.
يبدأ كتابه أو يومياته (مذاق البلح) برسم (بورتريه) خاصاً للروائي المصري (صنع الله إبراهيم) الذي جمعته غرفة واحدة، فى هذه الفترة مع (ملص) الذي كان يدرس في معهد السينما في موسكو، إنها لقطة مقربة جداً تكاد تنفذ إلى أعماق صاحب (تلك الرائحة)، فيقول صاحب (الليل) : عثرت على اليوميات التى كتبتها عن الروائي (صنع الله إبراهيم) فاستخرجتها من سياقها العام الذي كتبت المفكرة ضمنه، لأني شعرت أنها ترسم بورتريه لرووائي خاص، بورتريه لم أرسمه له بالقدر الذي كنت ألتقط فيه عالمه، حين كنت أتأمله فى عيشنا معا في الغرفة رقم (403) في بيت طلبة معهد السينما فى موسكو، جاء صنع الله إلى موسكو ليكتب، ترى هل كان هذا لتعذر العيش فى مكان آخر؟ أم أنه الفضول للتجربة السوفيتية، والانغماس فى عالمها السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والنسائي؟!
وهل كان هذا الفضول له علاقة بالسنوات الخمس التى قدمها (صنع الله) من عمره فى السجون المصرية كشيوعي؟!، حين كان صنع الله فى برلين، كان يعمل في وكالة الصحافة الألمانية الشرقية، وفي موسكو كان لابد له من مبرر للقاء فيها، فطلب منحة لدراسة السينما، ومن مصادفات صداقتنا أن طلبه هذا أوصله إلى معلمي المخرج “تالانكين”، بعد أن التقى “تالانكين” بصنع الله أدرك كما قال لي: (يجب أن تكون مهمتنا مع صنع الله ليس تحويل هذا الكاتب إلى سينمائي،بل أن تكون السينما فى نسيج تجربته الأدبية).
فى سنته الأولى عاش (صنع الله) في غرفة مشتركة مع آخرين، في بيت الطلبة، فكان صوت آلته الكاتبة بطرقاتها المبكرة والمتأخرة تصل إلى أسماعنا فى الغرفة القريبة لغرفته، حيث كنت أعيش مع (هيثم حقي وسميؤ ذكري)، فى أحد تلك الأيام علمت أنه كان يبحث عني ويرغب أن نلتقي، فأسعدني ذلك، فقد كنت أشعر بالرغبة ذاتها والطموح فى أن نقترب أكثر.
شريف شاكر
يتحدث (ملص) عن يوميات ساحرة وجميلة عن (صنع الله إبراهيم)، بعدها وفي المفكرة ذاتها نتعرف إلى اسم مسرحي سوري رحل باكراً عام 1995 وهو(شريف شاكر) الذي يخاطبه ملص بنبرة وجدانية مؤثرة تعيد بعض الاعتبار إلى مثقف لم يلق اهتماماً من مؤسسات بلاده الرسمية، وهو إذ يستعيد ذكرى هذا المسرحي الحالم يتذكر قولاً لأندريه مالرو: (كل إنسان يشبه ألمه)، ويضيف ملص إلى العبارة، لدى سماعه خبر الرحيل، (بل وموته أيضا).
ويتحدث عن بداية تعرفه به فيقول: فى الطائرة التى حملتنا إلى موسكو عام 1968 التقيت (شريف شاكر) للمرة الأولى، كان عليه أن يجلس فى مقعد يقع فى الجهة اليمنى للطائرة، لكنه فى الواقع لم يجلس ولم يهدأ أبدا، وكان يملأ فضاء الطائرة بالحيوية والصخب وهو “يفقع” ضحكته الفاجرة تلك، كمان كان صدى لهجته الحلبية الرنانة، يخفي وراءه هلعا وتوترا لا علاقة له بالطائرة أبدا، بل بما تخبئه لنا الأيام القادمة التى وجدنا أنفسنا فجأة، حقيقة لا خيالا فيها في براثنها.
يومها تناولت مفكرة موسكو التى كانت ما تزال صفحاتها بيضاء، وكتبت على الصفحة الأولى منها جملة مقتبسة من (كيو) بطل رواية (الوضع البشري) لأندريه مالرو: كل إنسان يشبه ألمه، وفي عام غياب “شريف شاكر” 1995 أدركت أن الإنسان لا يشبه ألمه فقط بل أيضا موته.
بهذا المذاق المر يصل ملص إلى (مفكرة العطالة) التي تروي وقائع من يومياته في دمشق، حيث العمل في السينما بعيد المنال إزاء احتكار مؤسسة السينما للإنتاج، ومزاجية مديريها في اصطفاء مخرجين معينين يتمتعون بالفرص السخية دون غيرهم، أمام هذا الواقع السينمائي الراكد، تغدو (العين عدسة، والفوتوغراف مناما)، بينما لسان حال (المخرج المبعد) يقول: لا أحتاج إلى شيء كما أحتاج إلى الأمل، ليترك لي فسحة ظليلة في القلب، تمنح الخيال نبضه.
(مذاق البلح) يضم نصوصاً تكتسب أهميتها من صياغتها اللغوية الواضحة والسهلة، ومن كونها ترسم ألواناً متعددة خلال أزمنة مختلفة، ومع أنها تبدو متباينة في مواضيعها، غير أن ما يجمعها هو قلم الكاتب الذي يضفي على كل ما يسجله شيئاً من روحه المتعطشة إلى السينما، فتأتي التعابير والجمل وكأنها مشاهد سينمائية مقطعة وفق إيقاع مونتاجي مشوق، ومحبب من دون إغفال الاعتناء ببلاغة أدبية تقترب حيناً من تخوم الشعر، كأن يكتب: على الجدار لوحة لامرأة في ثوب أبيض، تحمل مظلة، وتتمايل كأنها تريد اللحاق بالنسمة الهاربة، ويكتب في مكان آخر: كانت تتحدث بحرقة شديدة، وكلماتها أشبه بالنشيج، وكان لعينها رضاب كماء العسل، أما جسدها فكان له مذاق البلح.
كما يحفل الكتاب بعناوين لأفلام تركت أثراً في تجربة ملص، وكذلك يعج بأسماء كثيرة سواء سينمائيون ومسرحيون وروائيون وفلاسفة وشعراء ونقاد من (رولان بارت إلى باختين إلى دستويفسكي وتشيخوف وفرنسوا تروفو ويلماز غوني ومارلين ديتريش وبارادجانوف) وسواهم ممن أضاءوا الدرب أمام ملص بأفلامهم ورواياتهم وأبحاثهم.
كتب أخرى
جدير بالذكرأنه بعد طرح هذا الكتاب، طرح (محمد ملص) أكثر من كتاب آخر مثل كتاب (وحشة الأبيض والأسود)، وهو رصد لتجربة العمل خلال عشر سنوات، لسينمائيين عادوا من الدراسة الأكاديمية (1973) وعملوا في التلفزيون، فوقعوا في وهم أن وجودهم في التلفزيون تعبير عن حاجة “حضارية”، كما هو سائد في الكثير من التلفزيونات في العالم، بقصد المساهمة في إغناء الإنتاج التلفزيوني بتصورات سينمائية، وفي دفع التلفزيون للمشاركة والمساهمة في الإنتاج السينمائي الوطني – خاصة وأن التلفزيون السوري في تلك الفترة، ربما بسبب إدارات شجاعة ومتحررة من البيروقراطية – كان صاحب السبق وليس مؤسسة السينما بإنتاج الأفلام الوثائقية، التي أسست للسينما التسجيلية في سوريا وحظيت بالكثير من الاهتمام في مهرجانات دولية هامة.
كما يتضمن الكتاب النصوص الأدبية للمحاولات والمشاريع التي سعينا لتحقيقها، والحوارات العديدة مع الإدارات المتبدلة، وكيف يتم إجهاض المشاريع والحيلولة دون تحققها.
قيس الزبيدي
هذا وقد طرح (ملص) منذ شهور قليلة كتابه الجديد (قيس الزبيدي – الحياة قصاصات على الجدار)، الصادر عن دار (هاشيت) أنطوان بيروت، وفيه رسم بورتريه لزميله ورفيقه السينمائي العراقي (قيس الزبيدي)، مستندا في ذلك إلى تجارب شخصية خاضها، وأحاديث كثيرة جمعت بين الاسمين السينمائيين، مفتتحا الكتاب بمقولة للمخرج الروسي (أندريه تاركوفسكي): كيف كان في وسعي أن أتخيل، حين كنت أحقق فيلم (نوستاجيا)، أن ذلك الشعور الخانق بالحنين، الذي يملأ فضاء الشاشة، سوف يصبح قدري بقية حياتي.