إسرائيل وأم كلثوم
بقلم: محمود حسونة
“إسرائيل وأم كلثوم”، لغز عمره سنوات طوال، لَم ينجح أحد في فكه، وقد يستمر سنوات وسنوات وهو عصي على الفك وعلى الفهم، والسبب أن فصول العلاقة التي أسستها وفرضتها “إسرائيل” مع كوكب الشرق تخلو من المنطق وتثير الدهشة والتعجب والاستغراب.
“إسرائيل” هى وحدها التي حددت ملامح علاقتها بأم كلثوم، وهى التي رسمتها وعملت على تطويرها بمرور الوقت، وقد لا يكون مستغرباً أن يحدد كلّ منا (دولاً وأفرادًا) علاقته بالنجوم والفنانين، ولكن مع مراعاة أن نغلفها بشيء من المنطق حتى لا تكون مستهجنة، وفِي حالة دولة الكيان مع أم كلثوم فلا منطق ولا شيء معقول وكلها خارج حدود الإدراك.
الأسبوع الماضي أطلقت بلدية حيفا اسم كوكب الشرق أم كلثوم على أحد شوارعها، القرار أثار جدلاً في الشارع الإسرائيلي وقوبل بما يشبه الصمت المطبق في الشارع العربي، ولعل هذا هو المطلوب، حيث أن الجدل الإسرائيلي وما يشبه الصمت العربي حوّل أم كلثوم من أيقونة عربية إلى شيء يخص الإسرائيليين، يتفقون ويختلفون بشأنه، ونحن نتفرج أو لا نتابع بالمرة!
ما حدث في حيفا برره مؤيدوه على أنه جاء انطلاقاً من أن كوكب الشرق “تعتبر من عظماء الغناء العربي، وهي اسم مرادف للموسيقى العربية عموماً والمصرية خصوصاً، لذا رأت اللجنة أن تطلق اسمها على شارع فى حيفا، كمدينة مختلطة تمثّل نموذجًا للحياة المشتركة بين اليهود والعرب” على حد قولهم؛ فيما اعتبره معارضوه احتفاء بمطربة كانت تحمل عداءً مطلقاً لإسرائيل.
المعارضون يقولون الحقيقة التي يعلمها الجميع، خصوصاً أن أرشيف سيدة الغناء العربي يتحدث عن موقفها المعلن من الكيان منذ زيارتها لحيفا عام ١٩٣١، والتي تبرعت خلالها لصالح المقاومين للهجرة اليهودية والاحتلال البريطاني، ومروراً بأغنياتها الداعية لمقاومة الوجود ثم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وليس انتهاءً بحفلاتها لصالح المجهود الحربي بعد نكسة ١٩٦٧ سواء داخل مصر أو خارجها، في جولات غنت فيها في العديد من العواصم العربية والعالمية وكانت بمثابة “سفير” لفضح دولة الكيان أمام العالم، وكل ذلك بجانب تصريحاتها المعادية لإسرائيل حتى وفاتها في العام ١٩٧٥.
أما المؤيدون لتسمية الشارع باسم أم كلثوم فحجتهم واهية، ولو انشغلنا بالبحث والتدقيق سنجد أن هؤلاء هم من ينفذون الهدف الخبيث من وراء احتفاء “إسرائيل” بكوكب الشرق، فقرار تسمية شارع في حيفا باسمها ليس الأول ولن يكون الأخير، وقد سبقه قرار باطلاق اسمها على شارع في القدس، وحالياً تتم دراسة قرار لإطلاق اسمها على شارع في مدينة حيفا، ناهيك عن المهرجانات الغنائية التي تمنح جوائز باسمها وتخصص جانباً مهماً لدراسة أغنياتها وتأثيرها الجماهيري، ولا تنس الساعة التي خصصتها إذاعة إسرائيل يومياً لتقديم أغنياتها في السادسة مساء، أما البرامج التلفزيونية والصفحات الصحافية التي خصصت عن سيدة الغناء العربي بعد وفاتها، فمن الصعب جداً إحصائها، وفِي العام ٢٠١٧ عرضت القناة الأولى الإسرائيلية فيلماً تسجيلياً طويلاً عن أم كلثوم منذ ولادتها وحتى وفاتها، وربطت بدهاء غير ملحوظ بين حياتها والمحطات السياسية المصرية خلالها.
لن يكون غريباً أن نجد بعد عقد أو أكثر من الزمن شارع باسم أم كلثوم في كل مدينة محتلة من قبل إسرائيل، ولن يكون مستهجناً مستقبلاً أن نجد إذاعة ومحطات تلفزيونية باسمها، ولن يكون مستفزاً أن نجد أفلام وبرامج اليكترونية إسرائيلية عنها على مختلف تطبيقات الشبكة العنكبوتية، وسوف يحدث كل ذلك في مقابل أن يتم انحصارها إعلامياً على المستوى العربي بفعل التطور الزمني النمطي، وفِي ظل التجاهل الرسمي العربي والمصري لمكانتها وعدم إطلاق اسمها على شوارع أو ميادين أو محطات مترو، وبالتالي لا ينبغي أن نستبعد أن تخرج علينا اسرائيل مستقبلاً مدعية أن أصول كوكب الشرق غير مصرية إنما إسرائيلية، وهو نفس الأسلوب الذي سطت به على الأرض، وعلى التاريخ وعلى الفولكلور العربي وخصوصاً الفلسطيني، وأيضاً هو الأسلوب الذي تشكك به في الحضارة الفرعونية وتدعي أن بناة الأهرامات يهوداً، وهو فصل لم ينته بعد.
ليتنا ننتبه إلى رموزنا ولا ندع مجالاً لأحد كي يزايد علينا في تقديرها وتكريمها، فهم نبت صالح من هذه الأرض الطيبة وسيظلون لنا رموزا نفخر بهم ونعتز بأنهم منا، وحتى لا نترك الحبل على الغارب لإسرائل علينا بذل بعض الجهد لحل لغز “إسرائيل وأم كلثوم”، حتى ونحن نتمنى أن تظل أم كلثوم شمساً في سماء الكوكب كله، والسبب أن طموحات عدونا ليس السطو على الأرض فقط ولكن الأرض والرمز والموروث.
mahmoudhassouna2020@gmail.com